[شرح حديث: (أن عبد الرحمن والزبير شكيا القمل إلى رسول الله في غزوة لهما)]
الحديث الثاني يتعلق بلبس الحرير للعذر، ففي غزوة من الغزوات طال الأمر، واشتد الحر، وطالت الغيبة، وكان بعض الصحابة كـ الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ممن اعتادوا النظافة، واعتادوا الثياب اللينة، فلما طالت غيبتهم مع ثياب خشنة وعرق، ومع طول مسافة، وبعد عهد بالاغتسال وبالنظافة؛ تولد القمل في الثياب وفي الجلد؛ فآذاهما القمل، وآذتهما حكته، فاشتكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل الذي تولد من الوسخ، والذي تولد من الثياب الدنسة الخشنة، فلما لم يكن هناك علاج يخففان به هذه الحكة، رخص لهما في ثياب الحرير، يقول الراوي: (فرأيت عليهما قميص الحرير في تلك الغزوة) .
فأخذ العلماء أنه يرخص في لبس ثياب الحرير عند شدة الحاجة إليها، ومن جملة ذلك الحكة والقمل، ويكون ذلك عند طول العهد بالنظافة ونحوه.
ومعروف أن القمل يتولد في الثياب وفي البدن بسبب بعد العهد بالنظافة، وتكاثر الأوساخ في البدن وفي الثياب خاصة، إذا بعد العهد بتنظيفها وغسلها وإزالة الأوساخ عنها، فإذا تعاهد الإنسان بدنه يومياً أو كل يومين أو كل أسبوع مرة أو مرتين بأن يغسل بدنه وأن يغسل ثيابه وينظفها فإنه والحال هذه لا يتوالد معه القمل الذي يتوالد من الوسخ كما ذكرنا، وكذلك إذا كانت ثيابه نظيفة ولينة الملمس كثياب الحرير لا يتولد فيها هذا القمل غالباً.
ورخص لهما النبي صلى الله عليه وسلم في ثياب الحرير لرقتها وليونتها ونعومتها، وكونها تكون مكافئة ومكافحة لتولد هذه الحكة وهذا القمل، هذا هو السبب، فإذا وجدت مشقة حصلت الرخصة، وإلا فإن الحرير حرام على الرجال، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) وإنما رخص فيه للنساء، وقال في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم) فصرح بأنهما محرمان على الرجال.
وقد ذكر الله أنها لباس أهل الجنة؛ يقول تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:٢٣] ، فإذا كان لباسهم الحرير في الجنة فإن الذي يطلب الجنة في الدنيا يتقلل من الأسباب التي تمنع من دخولها، ومن جملة ذلك ألا يفعل الأشياء التي إن فعلها منع منها في الآخرة، كما صرح في هذا الحديث، وحديث: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) ، فكذلك من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، يعني: يعاقب بألا يدخل الجنة التي لباس أهلها حرير.
وسبب منع الرجال من لباس الحرير في الدنيا: أنه لباس أهل الترف، وأهل البذخ والكبر والرفاهية والتنعم، ولباس الذين يعتبرون الدنيا ملذة ونعيماً، وهذه الرتبة إذا حصلت فإن الذي تحصل له يكون من أهل الدنيا أصلاً، ولا يشتغل بالآخرة، بل يكون حظه منها هو الانكباب والإقبال على الشهوات وأسبابها، وهذا هو السبب في منع الرجال من لباس الحرير، ومن التحلي بالذهب في الدنيا.
وإذا كان كذلك فإنه يرخص فيه للعذر كما في هذه الحالة، والرخصة خاصة بالحرب، فإذا كان الإنسان غازياً، وطالت به الغيبة لطول الغزو، ولم يجد مكاناً أو بلداً يتنظف فيه، ويغير لباسه وكسوته أو ينظفه أو نحو ذلك، وحصلت له هذه الحكة من آثار هذا القمل؛ ففي هذه الحالة تحصل له الرخصة، وأما إذا وجد رخصة غير هذه بأن وجد ثياباً نظيفة أو وجد ما ينظف به بدنه ويزيل عنه الوسخ فلا تعمه الرخصة التي رخصت لهما.
وقد ذكرنا أنهما رضي الله عنهما كانا ممن اعتاد النظافة، واعتاد الثياب الرقيقة، ولما طالت بهما المدة تغيرت الحال عليهما، فكثرت الحكة فيهما، ولم يذكر أن غيرهما حصل له هذا الأمر؛ وذلك لأن غيرهما كانوا قد اعتادوا الثياب الدنسة ونحوها، ولا تؤثر الحكة على من اعتاده ذلك، والله أعلم.