[بيان صفة الاغتسال المجزئ والاغتسال الكامل]
الاغتسال نوعان: مجزئ، وكامل.
فالمجزئ: هو أن يعمم جسده كله بالماء أعلاه وأسفله، بحيث لا يترك من جسده شيئاً إلا أوصل الماء إليه، ويتعاهد الأماكن التي لا يصل إليها الماء إلا بصعوبة فيدلك رأسه؛ لأنه ورد أن تحت كل شعرة جنابة، ويدلك الأماكن المنخفضة كالسرة، والآباط، وبطون الركبتين، وبطون الفخذين، حتى يتأكد من وصول الماء إلى جسده.
إذا عمم جسده كله بالماء يعتبر قد ارتفع عنه الحدث الأكبر، سواء بدأ برجليه أو بدأ برأسه أو بدأ بجنبه أو بغير ذلك.
وأما إذا أراد الغسل الكامل؛ فإن عليه أن يعمل بهذه الأحاديث التي ذكرت فيها صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد أيضاً أشياء لم تذكر فيها، ولكن ذكرت في غيرها، فمثلاً: النية لا بد منها، وذلك لأن الاغتسال عمل ولا بد فيه من النية، فينوي رفع الحدث وينوي إزالة الجنابة التي اتصف بها؛ لقوله في الحديث: (إنما الأعمال بالنيات) ، فمن اغتسل بدون نية لم يرتفع حدثه.
وبعد أن ينوي يسمّي، فإن التسمية قد أوجبها بعض العلماء لورودها في بعض الأحاديث في الوضوء، والغسل يقوم مقام الوضوء.
وبعد التسمية يبدأ بالفعل، ففي حديث عائشة وكذلك في حديث ميمونة أنه غسل يديه، تقول ميمونة: (إنه أكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً أو مرتين) يعني: لم يدخل يده في الإناء حتى صب على يديه فغسلهما، (وكان يغتسل من قدح أو من إناء، يقال له: الفرق يسع ثلاثة آصع) ، فيفيض من الإناء حتى يصب على يده فيغسل كفيه، أي: يبدأ بتنظيفهما وإزالة النجاسة عنهما؛ لأن يديه هما الآلة التي يغترف بهما، فإذا نظف يديه ابتدأ بالاغتراف.
وذلك أنه يغسل فرجه أولاً، أي: يستنجي، وقد يكون الفرج علق به أو بقي فيه شيء من آثار المني، فإذا نظف أثره قد يبقى في اليد فيها شيء من اللزوجة من آثار المني ونحوه، فيضرب بها الأرض أو الحائط الذي هو الجدار المبني من الطين حتى يعلق بها تراب ثم يغسلها بذلك التراب ليزيل أثر تلك اللزوجة، أو يغسلها بما يزيل ذلك، ولعله يريد بذلك مسح ما علق بها، أو يريد بذلك غسلها بتراب أو نحوه، وإذا وجد ما يزيل ذلك الأثر غير التراب كالصابون استعمله، والحاصل أنه إذا علق بيده شيء من لزوجة المني فإن عليه أن يزيلها حتى ينظف يديه للاغتراف، والمراد هنا اليد اليسرى التي باشر بها غسل فرجه، أما اليد اليمنى فإنه معلوم أنه يغترف بها.
بعد ذلك ذكرت عائشة: (أنه توضأ وضوءه للصلاة) وفصلت ذلك ميمونة فذكرت: (أنه تمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً وغسل وجهه وغسل يديه -يعني: ذراعية- ولم يغسل رجليه، بل أخر غسلهما إلى أن فرغ) ، ولكن إطلاق عائشة يقتضي أنه غسل رجليه أيضاً، ولعله هو الأولى، أعني أن الأولى أن يتوضأ وضوءاً كاملاً بما في ذلك غسل القدمين، فإذا فرغ من الوضوء الكامل ابتدأ في الغسل.
فأول شيء يبدأ به غسل رأسه، ومعلوم أنه قد يكون على رأسه شعر فيقوم بتخليله، وهو إدخال الأصابع في خلال الشعر حتى يتحقق أنه قد وصل الماء إلى بشرة الرأس.
ثم ذكرت: (أنه أفاض على رأسه ثلاثاً) ، يعني: صب عليه ودلكه ثلاث مرات زيادة على التأكد قبل ذلك بتخليله، وذلك كله محافظة على غسل الرأس حتى لا يبقى شيء لم يمسه؛ لأن جلدته تغطى بالشعر، وتحت كل شعرة جنابة، فلا بد من التأكد، ولأن في الوجه وفي الرأس مغابن تحتاج إلى تعاهد كالأذنين، وكذلك العينان، وكذلك العنق، فلا بد من التأكد حتى يرتفع الحدث عنه.
بعد ذلك ذكرت أنه غسل سائر جسده أو أفاض الماء على سائر جسده، لكن ورد في بعض الأحاديث البدء بالشق الأيمن، وأخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما غسلت بنته: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) ، فاستحب أن يبدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر، أو بمنكبه الأيمن ثم الأيسر، وجنبه الأيمن ثم الأيسر، وفخذه الأيمن ثم الأيسر وهكذا.
والحاصل أنه لا بد من تعميم الجسد بالماء.
استحب بعض العلماء أن يغسل جسده ثلاثاً، وبعضهم يقول: لا يستحب؛ لأنه لم يرد، ولكن قد يحتاج إليه إذا كان عليه وسخ أو لم يتحقق وصول الماء أو نحو ذلك، وأوجب بعضهم أن يمر يديه على ما يستطيعه من جسده وبعضهم يقول: ليس بواجب، ولكن الاحتياط أنه يدلك ما يستطيعه، فيمر يديه على بطنه وعلى ما يستطيع من ظهره، وعلى أسفل بطنه وأسفل ظهره، وعلى فخذيه وساقيه وعلى عضديه ومنكبيه وعنقه، يتعهد ذلك كله ويدلكه، فإن هذا هو حقيقة الغسل.
الغسل في الأصل هو إمرار اليد على المغسول، فإذا استطاع ذلك فليفعل وإن لم يستطع إيصال يديه إلى مؤخر ظهره اكتفى بصب الماء عليه.
ذكرت ميمونة: (أنه بعد فراغه تنحى وغسل قدميه في موضع غير الموضع الذي اغتسل فيه) ؛ وذلك لأن رجليه كانتا في مستنقع الماء وقد ابتلتا بذلك الغسال فأراد تنقيتهما، فتنحى عن ذلك الماء وغسلهما من باب التنظيف أو من باب غسل جميع جسده.
وذكرت عائشة: (أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم جميعاً يغترفان من إناء واحد، تقول: تختلف فيه أيدينا حتى أقول: دع لي ويقول: دعي لي) يعني: إذا كان في آخره، وذلك دليل على جواز اغتسال الرجل وامرأته جميعاً، وكان ذلك في بيت مظلم قد لا يرى أحدهما عورة الآخر، وإن كان مباحاً للرجل أن ينظر إلى جسد امرأته وكذلك المرأة بالنسبة إلى زوجها، وبكل حال فإن هذا فيه وصف هذا الاغتسال.
معلوم أن الناس في هذه الأزمنة قد توسعوا، وبالأخص في المدن، فصاروا يغتسلون تحت ذلك الرشاش الذي يرش الماء، ويقف الإنسان تحته فيعم جسده، ولكن على كل حال فالعمل بالسنة ممكن، فممكن لك قبل أن تبدأ بالاغتسال أن تغسل يديك وأن تستنجي وأن تتوضأ وضوءاً كاملاً، وممكن لك إذا كنت تحت الرشاش أن تبدأ بغسل رأسك وأن تخلله حتى تتأكد من وصول الماء إلى البشرة، وأن تثلث بعد ذلك، بأن تتركه يصب على رأسك ثلاثاً، ويمكنك بعد ذلك أن تبدأ بالجانب الأيمن فتدلكه ثم الأيسر، ويمكنك أن تثلث، يعني: أن تمر الماء على جسدك ثلاث مرات، ويمكنك أن تحرص على إمرار يديك على جسدك ودلك ما تستطيع دلكه.
وأما غسل الرجلين في الآخر، فإن كانت الرجلان في الماء المستنقع تحت قدميك، فإن عليك أن تخرج وأن تغسلهما في مكان نظيف، وإن لم يكن هناك مستنقع وتحققت أنك قد غسلتهما حصلت بذلك النظافة، وبكل حال فإن هذا فيه بيان غسل الجنابة الذي يعتبر كاملاً.
وجعله بعضهم منحصراً في عشرة أشياء: أولاً: النية، ثانياً: التسمية، ثالثاً: الاستنجاء، رابعاً: تنظيف اليدين بعد الاستنجاء مما يعلق بهما، خامساً: الوضوء الكامل، سادساً: تثليث الرأس وتخليل الشعر، سابعاً: تعميم الجسد بالماء كله، ثامناً: التيمن، تاسعاً: إمرار اليد على المغسول بحسب الاستطاعة، عاشراً: التثليث يعني: سنية أن يكرر غسل كل عضو ثلاث مرات، وزاد بعضهم الحادي عشر: إذا كانت رجلاه في مستنقع أن يغسلهما في مكان آخر.