للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دلالتها وصفاتها]

وقد استدل بشرعية صلاة الخوف على أهمية الجماعة، وذلك لأنها لم تسقط حتى في شدة الخوف إذا أمكن الإتيان بها جماعة، مع أنها لما شرعت في هذه الحالة أسقط فيها أشياء، وتسومح فيها في أشياء كانت تبطل الصلاة لولا شرعية الجماعة على هذه الحالة، كما سيأتي في هذه الصفات.

فلو كانت تصح فرادى لقال لهم: صلوا كما أنتم، فصلوا -يا عشرة- جماعة، وصلوا -يا خمسة- جماعة، وصل -يا واحد- وحدك ونحو ذلك، ولا حاجة إلى أن تجتمعوا كلكم خلف إمام.

لكنهم لما أمروا بأن يصلوا خلف إمام واحد، وأن يهتموا بأداء الصلاة جماعة دل على أنها لا تسقط، وإذا لم تسقط في حالة الخوف وفي حالة مقابلة العدو فكيف تسقط في الأمن؟ وكيف يتخلى عنها المصلي ويصلي في بيته وهو آمن، وهو قريب من المساجد، وهو قوي وليس عنده ما يمنعه؟! فلا شك أن التخلف عن صلاة الجماعة قد يؤدي إلى إبطالها، أو يؤدي إلى نفيها؛ حيث لم تسقط في صلاة الخوف أو في شدة الخوف، فكيف تسقط في الأمن وفي الرخاء والطمأنينة والقوة والفراغ؟! وقد ذكرنا أنها رويت بصفات متعددة، وأن كلها جائزة، ففي حديث ابن عمر أنه قسمهم طائفتين: طائفة قابلت العدو تحرس المسلمين المصلين، وطائفة صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالتي معه ركعة وانصرفوا، ثم وقفوا مقابل العدو وهم في نفس الصلاة، وجاءت الطائفة التي كانت تحرس فصلى بهم الركعة الباقية ثم سلم، فلما سلم قضى هؤلاء ركعة وأولئك المصافون -أيضاً- ركعة، كل واحد صلاها لنفسه بمفرده، فهذا مضمون هذا الحديث.

ولا شك أن فيه عملاً كثيراً، فهذه الطائفة الأولى انصرفوا وهم في نفس الصلاة لا يتكلمون، وجاءوا إلى الذين كانوا مصافين للعدو وقاموا مقامهم، ووقفوا مقابل العدو وهم لا يزالون في نفس الصلاة، ووجهوا أو سددوا سهامهم مقابل العدو حتى يحرسوا أنفسهم ويحرسوا إخوتهم الذين يصلون وهم لا يزالون في الصلاة، فساروا بعيداً، وانصرفوا عن القبلة، ولكن كل ذلك محافظة على الجماعة.

والطائفة الذين صلى بهم الركعة الباقية كبروا معه وصلوا معه الركعة الأخيرة، ولما سلم قاموا وهم في مكانهم وصلوا الركعة التي بقيت عليهم، وصلى أولئك الركعة التي لم يصلوها معه، فكان لكل واحد منهم ركعة صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة وركعة صلاها بمفرده بعد السلام، فهذا شرع لأجل حرصهم على أن يصلوا جماعة، وأن يحظوا بالصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم.

هذه هي الصفة في حديث عبد الله بن عمر، أما حديث سهل بن أبي حثمة الذي رواه صالح بن خوات كما عرفنا فذكر أنه جعلهم طائفتين: طائفة قابلت العدو بأسلحتها وبحذرها، تحرس وتحمي ظهور المسلمين، وطائفة جاءت وصفت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالتي معه الركعة الأولى وهم في نفس الصلاة، ولما صلى ركعة واحدة أشار إليهم أن يفارقوه وأن يتموا لأنفسهم، فأتموا لأنفسهم، ففارقوا إمامهم في نفس الصلاة وأتموا لأنفسهم ركعة وسلموا، وبقي واقفاً ينتظر الطائفة الأخرى، فجاءت الطائفة التي كانت وجاه العدو، ووقفت هذه الطائفة التي صلت وجاه العدو مقامهم، فجاء الذين يحرسون وصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، وجلس ينتظرهم، فقاموا قبل أن يسلم، وصلوا لأنفسهم كل واحد ركعة، ثم جلسوا، فلما أحس بأنهم قد انتهوا من التشهد سلم وسلموا معه.

وهذه الصلاة هي أقرب إلى الصلاة التي ذكرت في الآية، فالله تعالى يقول: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} [النساء:١٠٢] يعني: صلوا ركعة؛ فالركعة لابد فيها من سجود، أي: إذا سجدوا لأول مرة.

قال تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:١٠٢] يعني: يحرسونكم.

{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} [النساء:١٠٢] يعني: ما سبق أنهم صلوا قبل.

فإذا جاءت الطائفة الأخرى الذين لم يصلوا فليصلوا معك بقية صلاتك.

فهذه الصفة التي في حديث سهل هي أقرب إلى الآية، ولأجل ذلك رجحها الإمام أحمد رحمه الله، وهي متفق عليها وثابتة، ففيها أنه قسمهم إلى قسمين: قسم وجاه العد يحرسون ومعهم أسلحتهم، وقسم يصلون معه، فلما صلى بالذين معه ركعة واحدة وقف، وأشار إليهم فأطال الوقوف، ولا شك أنهم فهموا أو علمهم أنه سيقف ويطيل الوقوف، فهم ركعوا لأنفسهم، وكل واحد منهم نوى الانفراد فركع لنفسه ورفع، وسجد لنفسه سجدتين، وتشهد وسلم، وأخذوا سلاحهم، فقاموا وذهبوا حتى جاءوا مكان الطائفة التي صافت العدو، وكانت وجاه العدو فوقفوا مكانهم، وأشاروا إليهم أن: اذهبوا وصلوا مع نبيكم بقية صلاتكم.

فهذه الطائفة التي كانت مصافة للعدو أخذت أسلحتها وذهبت، وجاءت والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال واقفاً ينتظرهم، فلما تكاملوا خلفه ركع بهم ورفع وسجد بهم سجدتين وجلس للتشهد، ولما علموا أنه جلس للتشهد أشار إليهم وهو جالس، فقام كل واحد منهم ناوياً شبه انفراد، فصلى كل واحد منهم ركعة لنفسه بركوعها وبسجدتيها وجلس للتشهد، ولما أحس بأنهم أكملوا التشهد سلم بهم فسلموا معه، وتمت صلاته، فالأولون صلوا معه الركعة الأولى، والآخرون صلوا معه الركعة الثانية، هذه هي صلاة الخوف.