[شرح حديث:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك)]
أما الحديث الذي بعده ففيه هذه القصة، وكأن هذه امرأة من المهاجرات، ولم يكن لها مأوى فجاءت إما من قرية من القرى أو من بادية من البوادي، ولم يُذكر اسمها، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت:(إني قد وهبت نفسي لك) قال الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا}[الأحزاب:٥٠] وكأنها سمعت هذه الآية فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لتصبح كزوجة من زوجاته يقسم لها كما يقسم لزوجاته.
ثم لما عرف منها هذا ونظر إليها كما في بعض الروايات:(صعد النظر فيها وصوبه) أي: وطأطأه ولما طال وقوفها جلست تنتظر، ولما طال جلوسها قام رجل من الحاضرين -وهو أيضاً من فقراء المهاجرين- وطلب أن يتزوجها إذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة بها، ولما كان الصداق لابد منه في النكاح طلب منه صداقاً، ولكنه فقير من فقراء المهاجرين لا يملك شيئاً، فأمره أن يصدقها شيئاً فلم يجد؛ لأنه لم يكن عنده شيء، ولم يكن له إلا إزار قد شد به عورته حتى لم يبق على ظهره منه شيء، فهو عارٍ حتى من الرداء الذي يستر به ظهره، ومن العمامة التي يستر بها رأسه، فهو إذاً من الفقراء الذين هم في شدة فقر وحاجة، هكذا حالته، فلما لم يجد عنده شيئاًَ طلب منه أن يلتمس، وردده مراراً، حتى طلب منه ولو خاتماً من حديد، والخاتم هو: الذي يوضع في إحدى الأصابع، والحديد معروف يعني: قيمته قد تساوي قرشاً أو نحو ذلك، ولكنه لم يجد حتى هذا الخاتم من حديد؛ وذلك لفقره، فجلس وانتظر، وفي بعض الروايات:(أنه ذهب مولياً) ، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مدبراً، دعاه وسأله عن الحفظ الذي يحفظه من القرآن، فعدد سوراً يحفظها: سورة كذا، وسورة كذا، فقال له:(زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية قال: (فعلمها عشرين آية) فجعل تعليمه لها قائماً مقام المال الذي يُدفع لها مقابل نكاحها.
هذا هو مدلول هذا الحديث.
وقد استدل به بعض العلماء على أن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه؛ وذلك لأنه هنا جعله مقام الأجر المطلوب في قوله تعالى:{فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}[النساء:٢٤] وجعله قائماً مقام المال المطلوب في قوله تعالى: {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[النساء:٣٤] فأصبح مما يؤخذ عليه مال، ومما يصح أن يجعل صداقاً ومهراً ينتفع به، فعُرف بذلك أنه يصح أن يكون تعليم القرآن صداقاً، وبطريق الأولى تعليم غيره من العلوم التي يحتاج إليها، فإذا علمها شيئاً من الفقه، أو من الأحاديث، أو من تفسير بعض الآيات، أو علماً يحتاج إليه كعلم أدب أو علم أخلاق أو علم لغة أو غير ذلك مما يحتاج إلى تعليم صح أن يجعل هذا التعليم صداقاً.
وبذلك يُعرف أنه عليه الصلاة السلام كان يسهل في أمر الصداق؛ بحيث إنه جعل هذا التعليم صداقاً قائماً مقام الأموال التي يدفعها الزوج لزوجته مقابل أن تكون بينهما الزوجية، فإذا جاز تعليمها آيات من القرآن صداقاً أو أحاديث أو تفسير آيات أو تعليم حكمٍ أو أحكام أو مسائل فقهية أو نحو ذلك ويكون ذلك قائماً مقام المال، فبالطريق الأولى أنه يصح صداقها مالاً ولو قليلاً.
والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.