النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشفاعة في الحدود، وأمرهم أن يحرصوا على إقامة الحدود: على رجم الزاني أو جلده، ورجم القاذف، وجلد الشارب للخمر، وكذلك تعزيز المنتهب والمعتدي، أو جلد كل من أتى حداً فيه جلد، فمن زنى وهو غير محصن يجلد، أو قذف يجلد، أو نحو ذلك، ولابد من إقامتها إذا وصلت السلطان، ولا تجوز الشفاعة فيها ولا التعطيل، ولا تجوز الوساطة، ولا يجوز أن يصيروا وسطاء في إبطال حق لله وحد من حدود الله.
ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم بشدة على أسامة، ثم قام وخطب وأخبر بأن الأمم الذين قبلنا أهلكهم الله وعاقبهم بأسباب، وكان من تلك الأسباب تعطيل حدود الله، تعطيل حد الزنا، وتعطيل حد السرقة، قال عليه الصلاة والسلام:(إنه إذا سرق فيهم الضعيف قطعوا يده، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه) أي: إذا سرق فيهم الشريف تركوه لشرفه وخوفاً من منصبه، سواءً كان ذا منصب أو كان أميراً أو كان وزيراً، أو كان ابن أمير، أو ابن ذي شرف أو نحو ذلك، فلا يقتلونه إن قتل، ولا يقطعونه إن سرق، ولا يرجمونه إن زنى ونحو ذلك، وهذا لا شك أنه تعطيل لحدود الله، فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله عاقبهم بسبب تساهلهم في هذه الحدود، وإقامتها على الضعفاء دون الأشراف ونحوهم، ثم أقسم صلى الله عليه وسلم فقال:(وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وفاطمة ابنته عليه الصلاة والسلام هي سيدة نساء أهل الجنة، وابنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي البتول، وأم الحسن والحسين، وزوجة علي رضي الله عنه، ولا شك أن لها منزلتها، ومع ذلك -وحاشاها أن تسرق- ضرب مثالاً بها، إذ لم يكن عنده أغلى منها، ولا أقرب منها لكونها ابنته، فيقول:(لو سرقت لقطعت يدها) .
هذا هو العدل، وهذه هي المساواة والتسوية بين الناس، ألا يترك أحد لمنزلة ولا لشرف، وعدم التسوية هو الذي أهلك الأمم قبلنا.
كذلك أيضاً إقامة الحد في الزنا، ذُكر في التاريخ أنه كان من شريعة اليهود رجم الزاني إذا كان محصناً، وأنه زنى رجل من أشرافهم، ولما زنى تركوا إقامة الحد عليه ورجمه لشرفه، ولشرف قومه، أي: لأنهم أهل ثروة وأهل منصب فلم يرجموه، ولما كان بعد أيام أو بعد أشهر زنى رجل من أطراف الناس ومن ضعفائهم، فعزموا على أن يرجموه، فحال دونه قومه، وقالوا: لا نتركه يرجم حتى ترجموا فلاناً الذي هو ذو شرف، فعند ذلك عزموا على إلغاء هذا الحد الذي هو الرجم وتبديله، فاتفقوا على أنه متى زنى لا يرجم، فكانوا يسودون وجهه، ويطوفون به على حمار، يطوفون بالزاني والزانية منكسين، أي: كل منهما ظهره إلى ظهر الآخر، ولا يجلدون ولا يرجمون، وقالوا: نجعل هذا حداً يستوي فيه الشريف والطريف.
وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم زنى يهودي يهودية، فمُر عليه بهما محممين، فقال:(ما هذا؟ قالوا: قد زنيا، قال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: الجلد والتحميم، وكان عبد الله بن سلام قد عرف ما في كتابهم، وكان من مرشدة اليهود، فقال: كذبتم؛ بل تجدون في كتابكم الرجم، فأمرهم أن يحضروا التوراة فأحضروها، ولما أحضروها قرأ اليهودي ما قبل آية الرجم وما بعدها، وسترها بيده، فقال عبد الله: ارفع يدك، فرفعها فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد! فيها الرجم، ولكنه كثر -أي: الزنا- في أشرافنا، فخفنا ألا نسوي بين الناس فتركنا الرجم وعدلنا إلى التحميم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا سنة قد أماتوها) .
وفي بعض الروايات أنه لما وقع فيهم الزنا وأرادوا أن يقيموا الحد على ذينك الزانيين قالوا: اسألوا محمداً، فإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوا منه، وإن أفتاكم بالجلد فاقبلوا منه، فنزل في ذلك قول الله تعالى:{وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}[المائدة:٤٩] ، وخيره قبل ذلك في قوله تعالى:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ}[المائدة:٤٢-٤٣] .
وبكل حال فالرجم والقطع من حدود الله تعالى التي أمر بأن تقام على من اقترف جرماً من هذه الجرائم، حتى تأمن البلاد، وحتى يأمن الناس على أنفسهم، وعلى أموالهم، وحتى يرتدعوا عن فعل هذه الجرائم التي هي محرمة.
فإن كانت هذه الجرائم أقيمت مع توبة الفاعل وندمه فإن هذا الحد يمحو عنه أثر الذنب، وإن كان أقيم عليه كرهاً وهو لم يتب، فإنه يعاقب في الدنيا بهذا الحد، ويعاقب في الآخرة على ذلك الذنب.