اختصت مكة بأنها بلد المناسك التي تقضى فيها هذه المناسك، وإذا أقبل إليها العباد فإنهم يحرمون، يدخلون في النسك قبل أن يصلوا إليها بمدة وبمسافة، والحكمة في ذلك أن يتهيئوا لهذا العبادة ويلبسوا لباساً يختص بهذه العبادة يميز المحرم عن غير المحرم.
وذكر العلماء أن إبراهيم حين حكى الله عنه بقوله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}[الحج:٢٧] أنه دعا فقال: أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا.
وأن هذه الدعوة سمعها القريب والبعيد، وأنه بلغها من في الأصلاب ومن يأتي، وأن الآتين إلى هذه البلد -التي هي مكة- إذا أقبلوا إليها تجردوا من لباسهم ورفعوا هذا الشعار الذي هو شعار الإجابة، ولبوا بقولهم: لبيك اللهم لبيك.
أي: مجيبين لذلك النداء الذي هو نداء الله الذي أمر إبراهيم أن ينادي به.
فمن فضيلة هذه البلد أن المتنسكين إذا أقبلوا إليها رفعوا أصواتهم بالتلبية، وجردوا أبدانهم من لباسهم المعتاد، وارتدوا أردية خاصة وألبسة خاصة تشبه أكفان الموتى، واستعدوا للأعمال الصالحة، فكان ذلك من ميزتهم وعلامتهم أنهم جاءوا مجيبين لتلك الدعوة وجاءوا لعبادة الله سبحانه وتعالى، فهذه هي الحكمة في جعل هذه المواقيت، ولما كانت مكة في وسط القرى سماها الله تعالى أم القرى، قال تعالى:{وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}[الأنعام:٩٢] ، وكان الناس يأتونها من كل الجهات الأربع، من جهة الغرب، ومن جهة الشرق، ومن جهة الشمال، ومن جهة الجنوب، يأتونها من هذه الجهات، فكل جهة إذا أقبلوا منها إليها استعدوا، فجعل لهم مكاناً يستعدون فيه.