في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى من خطبته للرجال كان النساء في مكان بعيد، وعرف أنهن لم يصل إليهن صوته، ولم يسمعهن، فأتاهن وخطبهن بخطبة خاصة وذكرهن، وكان من جملة ما ذكرهن تخويفهن بقوله:(تصدقن؛ فإنكن أكثر حطب جهنم) يعني: كأنه عرف أو أطلعه الله على أن النساء ممن يأثمن، لكثرة الأعمال التي يذنبن فيها، وكأنهن استغربن ذلك، ففي بعض الروايات أنهن قلن: لمَ؟ وفي هذا الحديث أنها امرأة واحدة كأنها جريئة، وقوله:(سفعاء الخدين) معناه: جريئة على الكلام، ليس معناه: أنها كانت كاشفة عن خديها، إنما كلمة (السفع) يراد بها: المرأة الجريئة التي لا تستحي أن تتكلم أمام غيرها من الرجال، فهي التي نطقت دون هؤلاء النساء مع كثرتهن، وقالت: لماذا نحن أكثر حطب أهل النار؟ فأخبرهن بأنهن يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، و (كفر العشير) أي: كفر الزوج، يعني: أنهن يكفرن إحسان الزوج إليهن، ومثل ذلك في بعض الأحاديث بقوله:(لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط) .
وبكل حال: هذا وصف أغلبي، وليس عاماً لهن كلهن، بل فيهن ذوات الإيمان وذوات التقوى، وفيهن من تخاف الله وتراقبه وتعبده، والرجال -أيضاً- فيهم كثير ممن هو جاحد للإحسان وجاحد للمعروف، ولكن وصف إنكار المعروف في النساء أغلب، وعلى هذا جرى هذا الحديث في قوله:(إنكن أكثر أهل النار؛ لأنكن تكفرن العشير وتكفرن الإحسان) .
وهذا يدل على أن الإنسان عليه أن يعترف لصاحب الفضل بفضله الذي امتن به عليه، فمن أحسن إليك فلا تنكره، ولا تنكر إحسانه وفضله، واحرص على أن تكافئه، فإن كان إحسانه إحساناً دنيوياً فأحسن إليه بمثل ذلك ما استطعت، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) هذا في الإحسان الذي هو نفع مالي أو نفع بدني أو نحو ذلك.
وأما في الإحسان الذي هو نفع ديني كالفائدة والمعرفة ونحو ذلك فإن عليك -أيضاً- ألا تنكر فضله عليك، بل تدعو له على ذلك، وفي ذلك يقول بعضهم: إذا أفادك إنسان بفائدة من العلوم فلازم شكره أبداً وقل فلان جزاه الله صالحة أفادنيها، وألق الكبر والحسدا ثم لما حثهن النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة أخذن يتصدقن من حليهن؛ لأنه ليس معهن إلا الحلي، وليس معهن حلي ذو قيمة أو ثمن رفيع، إنما معهن أقراط وخواتيم، والقرط هو: ما يعلق في الأذن، والخواتيم: ما يجعل في الأصابع، وغالباً تكون من فضة، فجعلت المرأة تخلع القرط من أذنها وتلقيه في ثوب بلال، وتخلع الخاتم الذي في يدها -وهو من فضة غالباً- وتلقيه في ثوب بلال، حتى يجتمع من ذلك ما يجتمع، ويباع ويتصدق بثمنه على المهاجرين والمستضعفين.