للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الحلف بغير الله عز وجل]

كان أهل الجاهلية يحلفون بما يعظمونه، وكانت آلهتهم في نظرهم عظيمة، فلذلك كانوا يقولون في حلفهم: واللات والعزى.

و (اللات) : المعبد الذي في الطائف.

(والعزى) : الذي في نخلة بين مكة والطائف.

وكلاهما معظم عندهم.

فورد النهي عن ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وذلك لأن الحلف تعظيم للمحلوف به، فالذي تحلف به يكون قدره في قلبك عظيماً، فتعظمه بهذه اليمين.

والتعظيم لا يصلح إلا لله تعالى، فلا يجوز لأحد أن يعظم مخلوقاً، ولهذا جاء الأمر بالحلف بالله وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله) ، فأمر الذي يحلف بالله أن يحلف وهو صادق، ونهاه أن يحلف بغير الله أياً كان ذلك المحلوف به.

وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم، وبقي ذلك عند بعض من أسلم، حتى إن عمر رضي الله عنه -وهو من أذكى الناس وأفطنهم- حلف مرة بعدما أسلم بأبيه، فقال: بأبي إن الأمر كذا وكذا.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، ولما سمعه عمر رضي الله عنه امتثل ذلك، فتوقف عن هذا منذ أن نهاه، وذلك لأن الصحابة وقافون عند حدود الله، ومتى أمرهم الله بأمر توقفوا عنده، ومتى أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر امتثلوه ولم يتجاوزوه، فلذلك يقول عمر (والله ما حلفت بأبي بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً.

يعني: لا ذاكراً له مبتدئاً له من نفسي، ولا آثراً ناقلاً لكلامي عن غيري.

حتى النقل، فلم يقل: إن فلاناً قال: بأبي إن الأمر كذا من شدة امتثاله وتمسكه بما سمعه من الحديث المرفوع تمسكاً زائداً، فلم ينقل عن أحد قوله: بأبي إن الأمر كذا.

وما ذاك إلا أنه علم أنه صلى الله عليه وسلم ما نهى عنه إلا وهو حرام لا يجوز.

وقد ورد أيضاً ما يدل على أنه من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) .

فذكر في هذا الحديث أن الحلف بغير الله كفر أو شرك، ولكن إذا قيل: إنه كفر فهو كفر دون كفر، إنما هو كفر جزئي، بمعنى أنه جهل لما أمرنا به من الحلف بالله تعالى، وإذا قيل: إنه شرك فإنه من الشرك الأصغر الذي هو دون الأكبر، ولا يخرج من الملة، ولكن ما دام أن اسمه شرك فإنه لا يغفر إلا بالتوبة، وهو داخل في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨] ، فالذي يموت وهو مصر على نوع من الشرك كالحلف بغير الله يعتبر من الذين لا يغفر شركهم، بل لابد من عقوبتهم على قدر شركهم بما يقدره الله تعالى.

وعلى كل حال فإنه ما دام أنه ذنب وما دام أنه وصل إلى تسميته شركاً في هذا الحديث فإنه يدل على كبره وكونه أكبر الكبائر؛ لأن كبائر الذنوب كالزنا والربا ونحوها تحت المشيئة، إن شاء الله تعالى عفا عنها وغفرها لصاحبها، وإن شاء عذبه بقدرها، وأما الشرك ولو كان صغيراً فلابد من عذاب صاحبه في الآخرة بقدر شركه أو قدر ذنبه، فهذا دليل على عظمته.

والإنسان عليه أن يكون حذراً، عليه أن يكون تعظيمه لله، فإنه إذا حلف بغير الله فقد عظم ذلك المخلوق به، ودل على أنه أنزل في قلبه ذلك المحلوف به منزلة عظيمة يقدره بها ويرفع مقامه، وهو بهذا رفعه عن قدره، وقد جعله مستحقاً لنوع من التعظيم الذي هو حق الله تعالى.

ويدخل في ذلك الحلف الأشخاص والبقع والصفات ونحوها، كل ذلك من الحلف بغير الله.

وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:٢٢] فقال: الأنداد: هو الشرك، وهو أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان.

وحياتي.

فجعل هذا من الحلف بغير الله ومن الشرك، فمن قال: وحياتك يا فلان.

أو: بحياتك يا فلان.

أو: بحياتي فإن هذا قد حلف بغير الله، وقد أثبت ابن عباس أنه من الشرك الذي هو خفي، بمعنى أن الناس لا يفطنون له ولا ينتبهون له، وهي كلمات -كما يقولون- تجري على الألسن، فيُتساهل بها، وهي في الحقيقة من الشرك الخفي، فينتبه لها، فإذا قال قائل: وحياتك يا فلان.

أو: وحياتك يا فلانة.

أو: وحياتي.

أو قال: وشرفي.

أو: ونسبي.

أو نحو ذلك فهذا من الشرك، والذي يحلف بشرفه فإن شرفه لا يستحق أن يعظم بهذا التعظيم، وكذلك لو قال: ونسبي.

أو: ومنصبي.

أو: مفخري.

أو: ومفخر فلان أو ما أشبه ذلك، وكل هذا من الشرك.

وهكذا إذا أقسم بالتراب، كأن يقول: بتربة فلان.

أو ما أشبه ذلك، أو أقسم بالحرمة، كأن يقول: بحرمة فلان.

أو: بحرمة صاحب هذا القبر.

أو: بحرمة الولي أو بالقبر الفلاني أو بالشهيد أو بالولي الفلاني أو ما أشبه ذلك، لا شك أن هذا يعتبر تعظيماً لذلك المحلوف به، والذي يحلف به يعتبر كأنه رفعه عن مقامه، فكان بذلك مشركاً، فيتجنب الإنسان الحلف بالمخلوق، ولا يحلف إلا بالخالق سبحانه وتعالى.

وإذا قلت: إن الله تعالى أقسم بكثير من المخلوقات؟ نقول: الله تعالى يقسم من خلقه بما يشاء، كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:٧٥-٧٦] ، ولكن المسلم الذي يلتزم ويوحد الله يجعل إقسامه بالله، فلا يقسم إلا بربه؛ لأن القسم تعظيم، والتعظيم هو من حق الله تعالى على عباده، فحق على العباد أن يكون تعظيمهم لربهم.

ومع الأسف نسمع كثيراً لا يقنعون بالحلف بالله حتى يحلف لهم بغير الله، ففي كثير من البلاد التي تنتحل الإسلام وتدعي أن أهلها يعظمون الله ويعظمون القرآن ويؤمنون بالبعث يُحكى لنا عن بعضهم أنه كان له دين عند شخص، فأُحضر عند القاضي وحلف عشرة أيمان أنه ليس له حق لخصمه، فقال خصمه للقاضي: قل له يحلف بتربة الولي فلان.

فألزمه القاضي أن يحلف بتربته، فامتنع أن يحلف واعترف بالحق، وقال: إذا حملتوني على أن أحلف بتربة السيد فلان فإنني لا أحلف، بل أقول: إن الحق عندي إذا أكرهتموني.

فصارت تربة ذلك السيد الذي يعبدونه ويعظمونه ويسمونه ولياً وسيداً أعظم في قلبه من الخالق سبحانه وتعالى، فيا للعجب!! حلف بالله عدة أيمان وهو كاذب ولم يتجرأ أن يحلف بتربة السيد! فهذا لا شك أنه قد يصل إلى الشرك الأكبر؛ لأنه عظم ذلك السيد وصار في قلبه له وقع مع أنه مخلوق، ولو حلف به وهو صادق لأشرك وصدق عليه أنه مشرك.

فالحاصل أن المسلم عليه أن يكون تعظيمه لربه سبحانه، فلا يعظم أي مخلوق بأي نوع من أنواع التعظيم، لا بالحلف ولا غيره، ومتى عرف المسلم أنه تعالى هو المستحق للتعظيم والتوقير فإنه يعرف أنه المستحق لجميع العبادات كلها، فحينئذٍ هو المستحق أن يُدعى وحده ولا يُدعى غيره، وهو المستحق لأن يُرجى وأن يُخاف وأن يُعتمد عليه، وأن يُتوكل عليه، وأن يُستعان به، وأن يُستغاث به، وهكذا جميع أنواع العبادات التي هي خالص حق الله تعالى، فيصرفها لله، ويترك التعلق على مخلوق سوى الله.