في الحديث الأخير أنه بين وقت السحور، والسَحور هو الفعل، والسُحور هو الأكل، يقولون: إنه إذا قال: تسحرت سُحوراً فالمعنى: أكلت طعاماً.
وإذا قيل: السَحور مرغب فيه فالمراد به الفعل، فهنا بين وقت التسحر وهو آخر الليل، وذلك أنه مشتق من السحر، والسحر هو آخر الليل، وجمعه أسحار، قال تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[آل عمران:١٧] يعني: في آخر الليل.
وقال تعالى:{إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}[القمر:٣٤] يعني: في آخر الليل.
فالأكل في ذلك الوقت بنية الصيام يسمى سحوراً، وهو الذي ورد الترغيب فيه والحث عليه في هذه الأحاديث، ففي هذا أنه صلى الله عليه وسلم أكل قبيل الأذان، فلم يكن بين فراغه من الأكل وأذان الصلاة إلا قدر خمسين آية، أي: قدر قراءة خمسين آية.
يقول زيد:(تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة.
قال أنس لـ زيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) يعني قراءة خمسين آية من معتاد القراءة، قراءة مجودة ولكن ليس فيها تمطيط ولا مد طويل، وقراءة لآيات متوسطة ليست آيات طويلة جداً، ولا آيات قصيرة كالآيات التي من آخر القرآن، بل الآيات المتوسطة التي من الجزء الثالث -أي: جزء (قد سمع الله) وما بعده-، فهذا متوسط الآيات، أو من أوائل سورة البقرة، قراءة خمسين آية لا تستغرق -مثلاً- بالقراءة المتوسطة عشر دقائق أو نحوها، فقد يستغرق عشراً وقد لا يستغرقها، فهذا دليل على أنه كان يؤخر السحور.
وقد ورد -أيضاً- الترغيب في تأخير السحور في قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) ، فهذا دليل على تأخيره، يعني أنه يكون حقاً سحوراً، ولعل الحكمة في تأخيره أن يكون أقرب إلى الإمساك، فإنه إذا كان السحور في وسط الليل لم يكن اسمه سحوراً، وأيضاً لم يبق أثره في النهار، بخلاف ما إذا كان قرب الإمساك فإنه يبقى أثر الأكل، ولا يحس بالجوع إلا بعد مضي مدة لكونه حديث عهد بأكل وبشرب.
فالحاصل أن الشرع الشريف جاء بالترغيب في العبادة، والترغيب فيما يحبب العبد إليها والتنفير مما يثقلها، فلما كان الصيام بدون سحور قد يثقل العبادة على العباد أمرهم بالسحور حتى يحبها العباد وحتى يألفوها، وحتى يأتوا بها بصدق ورغبة ومحبة.