في هذا الباب ذكر أيضاً حديثاً عن الصعب بن جثامة (أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه من الكراهية قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) هذه القصة وقعت في حجة الوداع، أنه صلى الله عليه وسلم أحرم هو وأصحابه من ذي الحليفة، ولما كانوا بالأبواء أو بودان -قرب مكة- جاءهم هذا الرجل الليثي من بني ليث فأهدى لهم بعضاً من حمار وحشي قد اصطاده وجعله كهدية له، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم أنه صاده لأجلهم وأنه تحرى قدومهم، فجعله ممنوعاً لهذا السبب فرده عليه، فأخذ العلماء من حديث أبي قتادة أنه أباح لهم أن يأكلوا ذلك الصيد الذي ما صادوه وإنما صاده رجل غير محرم ولم يصده لأجلهم، أما الصعب بن جثامة فصاده لأجلهم، كأنه حرص على اقتناصه إلى أن أدركه فرماه وعقره وجاء به.
والحاصل أنه فهم أنه صيد لأجله، وهذا هو الجمع بين الحديثين، فإذا قيل: لماذا أمرهم في حديث أبي قتادة أن يأكلوه وقال: هل منكم من أعانه في قتله؟ هل منكم أحد أشار إليه؟ فقالوا: لا.
قال:(كلوا ما بقي) مع أنه صاده لهم غالباً، أو أنه صاده لنفسه أو أنه صاده لأنه حلال، وفي حديث الصعب بن جثامة رده عليه وقال: لا نقبله لأنا محرمون؟! كأنه يقول: المحرم لا يأكل الصيد؛ لأن الله يقول:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}[المائدة:٩٦] .
إذاً فالجمع بينهما أنه إذا صيد لأجلك وأنت محرم فلا تأكل منه، وأما إذا صيد لغيرك فصيد لحلال فلا بأس أن تأكل منه، هذه هو الجمع.
وقد ورد في ذلك حديث عن جابر في السنن، قال صلى الله عليه وسلم:(صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم) أي: صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم.
فيكون في هذا جمعاً بين الحديثين، وهو أن أبا قتادة صاده لنفسه، وأن الصعب صاده لأجل المحرمين.
وأما الآية الثانية:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}[المائدة:٩٦] ، فالمراد اصطياد صيد البر، وقد عرفنا أن الصيد كل ما يقتنص، سواء من الطيور أو من الدواب التي يحرص على تتبعها والتي هي حلال ولا تدخل فيما حرمه الله ولا ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم.