من نذر نذراً فيه مشقة وليس فيه طاعة فعليه كفارة، ودليله حديث أبي إسرائيل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم قائماً في الشمس، فسأل فقالوا: إنه نذر أن يقوم ولا يجلس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، ولما كان هذا ليس فيه عبادة إلا الصوم قال:(مروه أن يجلس ويستظل ويتكلم ويتم صومه) ، فالصوم عبادة فأمره أن يتمه، وأما تعذيب نفسه بالوقوف قائماً أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة، فنهاه أن يفي به، والصحيح أن عليه الكفارة، لقوله في الحديث:(لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) .
وكذلك أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية، وفي بعض الروايات حافية، أن تحج من المدينة إلى مكة على قدميها ولا تلبس نعلاً، ولا شك أن في هذا تعذيباً للنفس لكونها تسير هذه المدة الطويلة دون أن تركب ودون أن تنتعل فتعذب نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:(لتمش ولتركب) ، لكن معلوم أن المشي للطاعة عبادة، ولذلك قال تعالى:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}[يس:١٢] فالمشي إلى المساجد عبادة، والمشي إلى أماكن الطاعات عبادة، والمشي في الجهاد عبادة، وورد أن بعضاً من الغزاة في عهد الصحابة كانوا سائرين في خراسان متوجهين إلى بعض البلاد الأفغانية غزاة، فحدث بعض الصحابة بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(من اغبرت قدماه في سبيل الله لم تمسه النار) ، فلما سمعوا بذلك نزلوا عن رواحلهم، وصاروا يمشون في تلك الأرض التي فيها غبار حتى يغبروا أقدامهم لكونهم غزاة في سبيل الله، وامتثلوا هذا الأمر، فأفاد بأن المشي طاعة وعبادة، لكن إذا كان فيه تعذيب للنفس فالله تعالى رحيم بعباده، وليس لأحد أن يكلف نفسه فوق طاقتها، وأن يشق عليها بعبادة يعجز عنها، ولذلك لو نذر عبادة فيها مشقة أمر بأن يفعل منها قدر ما يستطيع، أو أن يكفر إذا لم يقصد العبادة وإنما قصد الامتناع، وكثير من الناس في هذه الأزمنة ينذر أحدهم صيام شهر، ولكنه نذر معلق، ويقصد بذلك منع نفسه، أو ينذر صيام سنة، أو ينذر نحر جزور، أو نحر عشر من الإبل، ولكن لم يقصد الطاعة، وإنما قصد منع نفسه، مثل إنسان مبتلى بشرب الدخان فعاهد الله وقال: لله علي إن عدت أشربه أن أصوم سنة.
ما قصد العبادة، ومع ذلك لم يصبر ورجع إليه -والعياذ بالله-، فهل يصوم سنة؟ لا شك أن في ذلك مشقة، مع أنه ورد النهي عن صوم الدهر، فمثل هذا يكفر كفارة يمين؛ لأنه ما قصد إلا منع نفسه من هذا الدخان أو نحوه، وكذلك من نذر نذراً ليس فيه طاعة أو فيه بعض من طاعة وبعض من معصية فيفعل ما يستطيعه، فنذر أخت عقبة فيه طاعة وهو المشي، وفيه مشقة وهو عدم الانتعال، وفيه أيضاً مشقة وهو تعذيب النفس لطول المسير في عشرة أيام، وربما كانوا يسيرون في اليوم ثنتي عشرة ساعة متواصلة، فكان في ذلك تعذيب للنفس، فلذلك قال في بعض الروايات:(إن الله لا يصنع بتعذيب أختك نفسها شيئاً، مرها فلتمش ولتركب) يعني: تمشي بقدر نشاطها ثم تركب إذا تعبت وعجزت {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:٢٨٦] .