أما الحديث بعده فيتعلق بالنهي عن النياحة، والنياحة: رفع الصوت عند الميت بالندب وبالصراخ والصياح ونحو ذلك.
ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة، وفسره الصحابي بأن الصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة التي تحلق شعرها أو تنتفه، والشاقة التي تشق ثوبها أو جيبها أو شيئاً من ثيابها من حر المصيبة.
وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال:(ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) ، وهذا يعم الرجال والنساء، يعني أن النياحة ليست خاصة بالمرأة، بل إذا ناح الرجل وصاح وشق ثوبه ونتف شعره من حر المصيبة -في زعمه- دخل في الوعيد الشديد:(ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) ، وكان في الجاهلية يدعون عند الميت بالويل والثبور، إذا مات لهم ميت يقولون: وا ثبوراه! واويلاه! أو دعوى الجاهلية أن يندب ذلك الميت، فيندبه إما باسمه كأن يقول: وا سعداه! وا محمداه! وإما بقرابته كأن يقول: وا ولداه! وا أخيَّاه!، وإما بصفته كأن يقول: وا مطعماه! وا كاسياه! فهذه من دعوى الجاهلية، وهي داخلة في الصياح الذي برأ منه النبي صلى الله عليه وسلم من الصالقة التي ترفع صوتها، والشاقة التي تشق ثوبها، والحالقة أو الناتفة التي تنتف شعرها، ويعم ذلك الرجال والنساء.
فإذا عرفنا أن ذلك منهي عنه نعرف الحكمة فيه، ذلك لأن المصيبة مقدرة، فالله تعالى قدر على الإنسان هذه المصيبة وقضاها، ولا راد لقضائه، فإذا علم العبد أنه لا منجى له من هذه المصيبة فليرض بذلك، الرجل تصيبه مصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وهذا تعليل.
وتعليل ثان: نقول لهذا النادب وهذا الصائح: ماذا ينفعك هذا الصياح؟ وماذا يزيدك؟ وماذا يؤثر فيك؟ هل يرد فائتاً؟ هل يحيى ميتك؟ هل يرد عليك ما فقدته منه؟ لا يفيدك، بل يضرك ويفوتك أجر الصبر الذي هو الاحتساب وطلب الأجر، فأنت إذا لم تصبر على هذه المصيبة كان ذلك مفوتاً لك حارماً لك من أجر المصيبة، والله تعالى قد وعد على الصبر بأجر عظيم في قوله تعالى:{أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:١٥٧] ، فالذي يجزع هذا الجزع يفوته هذا الأجر.