بعد أن عرفنا موجب الغسل فقد تقدمت لنا أحاديث في صفة الغسل، ولكن عندنا الآن حديث في مقدار ماء الغسل، في هذا الحديث أن جابراً رضي الله عنه لما سئل عن مقدار الغسل قال:(يكفيك صاع) ، أي: صاع من الماء، والصاع مكيال معروف، ولما اعترض رجل وهو الحسن بن محمد ابن الحنفية وقال:(لا يكفيني وذكر أن شعر رأسه كثير فلا يكفيه الصاع، فأخبره جابر أنه كان يكفي من هو أكثر منه شعراً وخيراً منه، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
قد ذكرت عائشة، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) يعني: أن المد وهو ربع الصاع كان يكفيه للوضوء عليه الصلاة والسلام، وأما للاغتسال فإنه كان يغتسل بصاع، يعني: بأربعة أمداد أو خمسة أمداد.
وبذلك يعرف أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على الاقتصاد وعدم الإسراف حتى في الماء، كما روي أنه مر على سعد وهو يتوضأ فقال:(لا تسرف، فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار) ، يعني: أنك مأمور بأن تقتصد، فاقتصاره عليه الصلاة والسلام على مد في الوضوء وعلى صاع في الاغتسال دليل على الاكتفاء بهذا القدر، حتى ولو كانت المياه متوافرة وكثيرة.
وفي الحديث:(أنه عليه الصلاة والسلام أفاض على رأسه ثلاثاً) يعني: أنه يبدأ برأسه فيغرف عليه ثلاث غرفات، كل غرفة ترويه ويدلكه بها ثم يغسل بقية جسده إلى أن يبلغ جسده كله بالماء، وهذا هو الغسل الكامل كما تقدمت بعض صفاته، والذين يكررون الدلك ويبالغون فيه قد يكون بعضهم معذوراً بالحرص على الإسباغ والتبليغ، وبعضهم ليس بمعذور؛ لما يقع فيه من الإسراف وكثرة صب الماء، ومع ذلك فلا بأس أن يدلك الإنسان جسده لغرض النظافة وإزالة الأوساخ والأقذار إذا كان بعيد العهد بالاغتسال، وخاف أن يكون في بدنه شيء من الوسخ.
وأما غسل الجنابة فإن القدر الكافي منه هو ما ذكرنا، وهو مقدار اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان يغتسل تحت الرشاش الذي يصب فوقه، حرص أيضاً على أن لا يضيع الماء وأن يكون بقدر ما يبلغ جسده، ثم يتحفظ عن الزيادة التي لا حاجة إليها، إلا إذا احتاج إلى دلك لإزالة وسخ أو قذر أو نحو ذلك.
فهذه الأحاديث كلها تتعلق ببقية الغسل، يعني: الحديث الذي يتعلق بآثار الجنابة وهو المني، والذي يتعلق بموجبها والذي يتعلق بكيفية إزالتها.