[الوصال وحكمه]
حديث النهي عن الوصال رواه جماعة من الصحابة كما ذكر المصنف، رواه عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وعائشة، رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، فقال الصحابة: (إنك تواصل يا رسول الله! قال: إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى) ، وفي رواية: (إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) .
والوصال: صلة الليل بالنهار، وهو ألا يفطر بينهما، وربما واصل يومين وليلة، فيتسحر فيأتي الإفطار فلا يفطر، ويستمر في عدم الأكل إلى السحر، أو يفطر ثم يتوقف عن الأكل ولا يستحر، وينوي الصيام من المغرب إلى المغرب من اليوم الثاني، أو ينوي الصيام من الفجر إلى الفجر الثاني، أو يمسك ستاً وثلاثين ساعة، أي: يومين وليلة فهذا هو الوصال.
ولا شك أن فيه مشقة، وذلك لأن نفس الإنسان ضعيفة لا تعيش عيشة تامة إلا على ميل إلى شهواتها، ولا شك أن من أعظم ما تعيش به وتبقى به هذه النفس هو الأكل والشرب الذي به حياتها وبه بقاؤها، وقد جعلهما الله تعالى غذاءً لهذه النفس وسبباً في حياتها، وأمراً ظاهراً في بقائها وفي قوتها، فإذا ترك الإنسان الأكل والشراب هذه المدة أجهد نفسه وأضرها، وربما أدى به ذلك إلى أن يضعف عن الواجبات، وربما أدى به إلى المرض أو إلى الموت إذا واصل أياماً طويلة، وربما أدى به إلى كراهة الصيام إذا واصل هذه الساعات ستاً وثلاثين ساعة أو أكثر وهو لا يأكل ولا يشرب، فلا شك أنه يجهده ذلك أو يمرضه، فلذلك نهى عن الوصال، وأمرنا بأن نفطر عند وقت الإفطار ونتسحر عند وقت السحور، ونستعين بهذه الأكلات وهذه الوجبات على الأعمال الصالحة.
فالعبد إذا نوى بأكله التقوي على الطاعة، والتقوي على العبادة كان ذلك مثاباً عليه، وإذا نوى بشربه التقوي على طاعة الله حتى لا يضعف بدنه عن صلاته ولا عن قيامه ولا عن عبادته ولا عن جهاده ولا عن كسبه لأهله ونحو ذلك، فنوى بذلك هذه الأشياء أثيب عليه، أما إذا زهد في الطيبات وأضعف نفسه وأهلكها فيوشك أن يمل من العبادة وأن يضعف جهده ويضعف جلده، فيؤدي به ذلك إلى أن يبغض العبادة ولا يعود إليها.
وعلى كل حال ففي هذا الحديث أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! إنك تواصل! ويظهر أنهم رأوه لا يفطر إذا أفطروا، فرأوا أنه يواصل الليل بالنهار، أو يصل النهار بجزء من الليل، فأخبر بأنه يطعمه الله ويسقيه، فقال: (إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) ، واختلف في هذا الإطعام والسقي، فقيل: إنه حقيقي، فيؤتى من الجنة بطعام وشراب لا يطلع عليه الناس.
وهناك قول آخر، وهو أن الإطعام والسقي الذي ذكر ليس طعاماً حقيقياً، وإنما هو ما يفتح الله على قلبه من الإلهامات، وما يتوارد عليه من الأذكار والفتوحات، فتقوم مقام الطعام والشراب، ويعبر عن ذلك بعضهم بأن هذه قوى معنوية يمده الله بها من آثار ذكره، ومن آثار شكره، ومن آثار عبادته، فيقويه الله حتى يكون ذلك قائماً مقام الزاد ومقام الأكل والشرب، وفي ذلك يقول بعضهم: لها أحاديث ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد وهذا هو المعنى الصحيح، أي أنه لم يكن أكلاً وشرباً حقيقياً، وإنما هو فتوحات وإلهامات تفيض على روحه من ربه فتقوم مقام الطعام والشراب.
وعلى كل حال فقد نهاهم عن الوصال، وأخبر بأنه ليس كمثلهم، فليس لهم من الإلهامات والفيوض التي يفتحها الله عليه ما له، فعليهم أن يستعينوا بالأكل والشرب على ما أمروا به.
وفي بعض الروايات أنهم لما رأوه يواصل استمروا في الوصال، يقول الراوي: (فواصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، وقال: لو تأخر لزدتكم.
كالمنكل لهم لما أبوا أن ينتهوا) .
وقد ورد في بعض الروايات -كما ذكر المصنف- قوله صلى الله عليه وسلم: (فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر) ، وفي بعض الروايات: (أنه صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر كان يجعل عشاءه سحوراً) ، فكان يتناول فطوراً يسيراً، فيفطر على تمرات أو على رطبات أو على جرعات من ماء، ثم يؤخر العشاء فيجعله سحوراً ليكون أخف له عند قيامه من الليل، فمن أراد أن يقتدي به تناول إفطاراً خفيفاً.
وأخر العشاء إلى الليل ليكون أقوى له على القيام، ومن رأى أن نفسه لا تصبر على ذلك فله أن يتزود من الأكل بما يكون له متاعاً.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.