للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السنن المستفادة من قصة بريرة]

ذكرت في هذا الحديث أن في بريرة ثلاث سنن: السنة الأولى: أنها خيرت لما عتقت بالبقاء مع زوجها المملوك فاختارت نفسها، وقد كان لها زوج يقال له: مغيث، فلما عتقت كانت بلا شك أفضل منه؛ لأنها حرة وهو عبد، فعند ذلك خيرت، قيل لها: أتختارين البقاء مع زوجكِ، أم تختارين فراقه؟ فقالت: لا أريده، ولا رغبة لي فيه، فأصبح ذلك سنة، أن الأمة إذا كانت زوجة لمملوك فعتقت فإنها تخير، إما أن تختار البقاء تحت ذلك العبد، وإما أن تختار التحرر وعدم البقاء معه، فتطلق منه إذا اختارت.

أما إذا كان زوجها حراً فلا خيار لها؛ وذلك لأنها تصبح مثله، هو حرٌ وهي قد أصبحت حرة، قد كانت مملوكة قبل ذلك ثم أعتقت وزوجها حرٌ فليس لها اختيار، بل تبقى في عصمته، ولا تقدر على أن تخلص نفسها، بخلاف المملوك، فإنها تخلص نفسها منه، إن شاءت بقيت وإن شاءت تحررت وطلقت، يقولون: عتقها طلاق لها إذا شاءت.

أما السنة الثانية: فهي أنه صلى الله عليه وسلم دخل مرة فدعا بطعام، فأتوه بشيء من طعام البيت من خبز وإدام من خلٍ أو نحوه، وكان قد رأى على النار برمة فيها لحم، فقال: (ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟ فقالوا: بلى، ولكنه صدقة) ، أي: وأنت لا تأكل الصدقة.

كان الطعام صدقة تصدق به على بريرة؛ لكونها مملوكة أو لكونها كانت أمة، فهذه صدقة تصدق به عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قربوه فهو لها صدقة ولنا هدية) ، أي هو عليها صدقة لكونها تستحق الصدقة، ولكن الصدقة قد بلغت محلها فكأنها أهدته إليه، فأكل منه عليه الصلاة والسلام.

فمعروف أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأكل الصدقة بل يأنف منها ويقول: (إن الصدقة لا تحل لبني هاشم، وإنما هي أوساخ الناس) ، سواء كانت صدقة فرض كالزكوات أو صدقة تطوع، بل كان لا يأكل منها أحد من بني هاشم ولا من أقاربه، ولكنه كان يقبل الهدية، فهذا اللحم هدية أهدي إليه صلى الله عليه وسلم، كأنها لما تصدق به عليها لم تكن تأكل ذلك اللحم كله، فأعطته لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقبله وصار هدية فأكل منه.

السنة الثالثة: أن الولاء لمن أعتق؛ فهذه ثلاث سنن في هذه المملوكة التي تحررت وأصبحت مولاة لـ عائشة.

وبكل حال الشاهد: أن الولاء الذي هو قرابة سببه نعمة المعتق على عبده بالعتق، فإنه يرثه هو أو عصبته الذين هم الرجال دون النساء، فإذا مات العتيق ولم يكن له أقارب ورثه المعتق، فإذا لم يكن هناك معتق، ورثه أولاد المعتق أو إخوة المعتق أو أقارب المعتق ويكونون أحق به؛ لكونه منسوباً إليهم، وهكذا مثلاً لو انقطع نسب المعتق، المعتق الذي من بالعتق، وليس له وارث إلا عبده الذي أعتقه فإنه يرثه؛ وذلك لقوة الصلة بينهما، هذا هو القول الراجح الصحيح، وهذا هو مناسبة ذكر الحديث في الفرائض.