[غسل يوم الجمعة]
من جملة الأحاديث التي مرت بنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) .
والأحاديث في الأمر بالاغتسال يوم الجمعة كثيرة، واعتقد بعضهم أنه واجب، واستدلوا بحديث أبي سعيد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) .
وذهب آخرون إلى أنه سنة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، ومعنى قوله: (فبها) يعني: أخذ بالسنة ونعمت السنة ما أخذ، فإذا اقتصر على الوضوء وأخذ به فلا بأس.
وقيل: معناه: أخذ بالرخصة.
أي: أخذ بالرخصة (وبها ونعمت) .
والقول الثالث: إنه يجب الغسل على من كان بعيد العهد بالنظافة وبالاغتسال، ومستحب لغيره.
وبكل حال فلما وردت أحاديث كثيرة تدل على الأمر به عرفنا آكديته، فهو آكد السنن، يعني: آكد من كثير من المأمورات التي يذهب بعضهم إلى وجوبها.
فمثلاً: الأحاديث التي في نقض الوضوء بأكل لحم الجزور حديثان، والأحاديث التي في الاغتسال للجمعة أكثر من حديثين وثلاثة وأربعة، والأحاديث التي في نقض الوضوء من مس الذكر حديثان أو نحوهما، والأحاديث التي في غسل الجمعة: أكثر وأكثر؛ فلأجل ذلك أكده كثير من العلماء.
ولعل القول الثالث هو الأولى، وهو أنه واجب على من كان بعيد العهد بالاغتسال، فمن كان حديث العهد بالاغتسال، وكان نظيف الجسد، فإنه يكون سنة في حقه، ودليل ذلك: ما روته عائشة من سبب الأمر بالاغتسال، وهو أن الناس كانوا يأتون لصلاة الجمعة وهم أهل عمل، وقد اتسخت أبدانهم وثيابهم، فيؤذي بعضهم بعضاً بروائحهم ونتن الوسخ وما أشبه ذلك، فأمروا أن يتنظفوا ليوم الجمعة حتى لا يؤذي بعضهم بعضاً.
وهذه حكمة عظيمة، ومعلوم أن الصحابة في ذلك العهد كانوا فقراء، وأغلبهم مهاجرون ليس لهم مأوى، وبعضهم إنما يكون في المسجد وهم أهل الصُّفَّة الذين ليس لهم بيوت وليس لهم أهل، وليس لأحدهم إلا قميص أو رداء وإزار يلتف به كلباس المحرم، وقد يبقى عليه لباسه خمسة أشهر، ولا يجد ما يغيِّره، أو أكثر من ذلك أو أقل، ثم أيضاً لا يتيسر له غسله ولا تنظيفه، حيث إنه لا يملك إلا ذلك القميص أو ذلك الثوب، فيقيم مدةً طويلة لم يغسله، فمع طول المدة يبقى ذلك الثوب متسخاً.
كذلك أيضاً كثير منهم أصحاب عمل في مزارعهم وفي أشجارهم، ومع كثرة العمل ومع التعب تتسخ الأبدان، ويكون فيها العرق الذي يتجمد فوقها، ومع اتساخ البدن وطول العهد بالنظافة يتولد القمل، وتتولد الروائح المنتنة التي تؤذي المصلين.
فإذا جلس من هذه حالته إلى جانب غيره تأذى برائحته، وتأذى بوسخه، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن المسجد لم يكن فيه تهوية، وليس فيه تكييف، بل هو يضيق بهم، ويكتظ بالمصلين، والجو شديد الحر؛ فلذلك ونحوه تضرروا لذلك، واشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم إلى هذا الأمر الذي هو الاغتسال؛ رجاء أن يخفف هذا الأمر الذي يتأذى منه الكثير، فهذه هي الحكمة في الأمر بالاغتسال، فلذلك نقول: من كانت هذه حالته وجب عليه أن يغتسل، حتى لا يتأذى به المصلون، ولا تتأذى به الملائكة، ومن كان حديث عهد بنظافةٍ وباغتسال فلا يجب ذلك عليه