شرح حديث:(إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم، ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم؛ إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقال: صدق يا محمد، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما، قال: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة) .
يجنأ: ينحني.
الرجل الذي وضع يده على آية الرجم هو عبد الله بن صوريا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لو أن رجلاً -أو قال: امرأً- اطلع عليك بغير إذنك فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح) ] .
هذا الحديث يتعلق بحد الزنا مع الإحصان كالحديث الذي قبله، وقد ذكرنا أن جريمة الزنا من أشنع الجرائم؛ وذلك لما فيها من الاعتداء على حرمات المسلمين، واستحلال ما حرم الله طواعية لشهوة قد توقع صاحبها في الإثم أو في العقوبة أو في القتل، والله سبحانه وتعالى ركب في الإنسان هذه الشهوة إلى الوطء، ثم أباح له النكاح الذي يكون فيه مصالح عديدة، ففيه إعفافه وإعفاف زوجته، وفيه تحصيل الذرية الصالحة ونحو ذلك، وحرم عليه أن يعتدي على نساء غيره، وأن يعتدي على محارم غيره اللاتي يحرمن عليه، وجعل في ذلك هذه العقوبة الزاجرة، وأنزل ذلك في الكتب السماوية، فكتاب التوراة الذي أنزل على موسى اشتمل على آية فيها ذكر أن الزاني يرجم إذا كان محصناً.
ولما كثر الزنا في اليهود وفشا فيهم ذكروا أنه زنى رجل من أشرافهم، فلم يقيموا عليه الحد الذي هو الرجم؛ وذلك لكونه شريفاً في قومه، ثم بعد أيام زنى رجل من أطرافهم لم يكن شريفاً ولم يكن له منعة فأرادوا أن يرجموه، فقال أقاربه: لا ترجموه حتى ترجموا فلاناً الذي زنى قبله، فعند ذلك تفكروا وعرفوا أنهم لا يقدرون على أن يسووا بين الشريف والطريف، فعزموا على تغيير هذا الحد أو هذه العقوبة، فاصطلحوا على عقوبة يسمونها: التحميم، وهي أنهم يسودون وجه الزاني ووجه الزانية، ويطوفون بهما على حمار منكسين، أي: ظهره ملاصق لظهرها على الحمار، ويكون هذا إشهاراً لهما وفضيحة، ويجلدونها جلداً خفيفاً أيضاً، فجعلوا ذلك مكان الرجم، وأسقطوا حكم الله به الذي أنزله في كتابه، وهو الرجم حتى يموت.
وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة بعض من اليهود، فزنا منهم رجل بامرأة وثبت زناهما، عند ذلك قالوا: لماذا لا نأتي محمداً ونسأله، فإن أفتانا بالرجم لم نقبل منه، وإن أفتانا بالجلد والتحميم قبلنا منه، وكان ذلك حجة لنا عند الله، وقلنا: إنه قد أفتانا نبي من الأنبياء؛ فيكون ذلك عذراً لنا عند الله، ففعلوا ذلك.
وبعدما جاءوا وسألوه عن حكم من زنا لم يفتهم لأول مرة، بل أراد أن يقيم الحجة عليهم من دينهم ومن شريعتهم، فسألهم:(ماذا تجدون في كتابكم؟) وهي التوراة المنزلة على موسى، ولو كان فيها شيء من التحريف والتغيير، فعند ذلك قالوا: ليس فيها ذكر الرجم، وكان هذا بحضور رجل من اليهود قد أسلم وهو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقد عرف الحق من أول يوم قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قالوا ذلك وهو حاضر قال: كذبتم؛ إن فيها الرجم؛ لأنه يعرف ما فيها؛ ولأنه كان من علمائهم وأحبارهم، فعند ذلك قال: فائتوا بالتوراة إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة، وكانوا يعرفون مكانها، فلما نشرها الذي كان يقرأ -ويقال له: عبد الله بن صوريا - وضع يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها، ففطن له عبد الله بن سلام فقال: ارفع يدك، واقرأ هذا الذي تحتها، فلم يكن بد من أن يقرأه، فإذا فيها آية الرجم تلوح، فعند ذلك قال: صدق يا محمد! فيها آية الرجم، ولكن كان عذرنا في تركها كذا وكذا، ولم يكن لنا بد من أن نفعل ذلك.
فأنزل الله فيهم من القرآن قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ}[المائدة:٤١] يعني: التحميم {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا}[المائدة:٤١] أي: إن أوتيتم الرجم فاحذروا، إلى قوله:{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ}[المائدة:٤٣] ، ففضحهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:(اللهم إني أحييت سنة قد أماتوها) ، وأمر بهما فرجما.