[تحذير من يخاصم على أرض وهو يعلم أنه لا حق له فيها]
ومعلومٌ ما يقع من المنازعات ومن المخاصمات في الأراضي، وكيف أن الناس يختلفون على هذه الأرض وأنهم يعرفون أو بعض منهم أنها ليست ملكاً لهم، ومع ذلك يحملهم الطمع على أن يأخذوا ما ليس لهم، وهم يعرفون هذا الوعيد الشديد! كثير من الخصومات وكثير من القضايا التي في المحاكم إنما هي حول بقاع أو قطع من الأرض، هذا يدعي أنها له، وهذا يدعي أنها له، ولو علموا أن فيها هذا الوعيد الشديد لزهدوا فيها كلها، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ترافع إليه رجلان من الصحابة في مواريث بينهما قد اندرست، يمكن أن يكون منها أراض وعقارات وبقع قد اندرست، ولا يعلمون ما حق هذا من حق هذا، فعند ذلك وعظهم صلى الله عليه وسلم وقال:(من قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها) ، وكان أولئك الصحابة ذوي ورع وذوي مخافة، فلما سمعوا هذا الوعيد خاف كلٌّ منهم أن يأخذ شيئاً من حق أخيه فقال: أنا أتنازل عنها كلها، ولا أريدها إذا كانت عاقبة هذا الظلم أو عاقبة هذا العدوان النار، فلا حاجة لي فيها.
فعند ذلك أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلا أن يتحروا الصواب ويقتسموها على ما يقرب من الحق، ثم بعد ذلك يستبيح كل منهم صاحبه، فنحن نقول: إذا كان بينك وبين جارك، أو بينك وبين شريكك خلاف في شيء من الأرض، أنت تقول: هذا لي وهو يقول: هذا لي؛ فاعلم أنك إذا أخذته وأنت تعلم أنه ليس من حقك، فإنك متعرض لهذا الوعيد، ومتعرض لأن تحمل هذه الأرض يوم القيامة كلها طوقاً في عنقك من سبع أرضين، أو متعرض لأن يخسف بك في هذه الأرض كلها إلى سبع أرضين، ومتعرض للَّعن الذي توعد به في هذه الأحاديث.
فإذاً نقول: عليك أن تصطلح مع جارك أو شريكك، على أن تقتسما هذه الأرض ويستبيح كل منكم صاحبه، أي: تتنازل عنها إذا كنت تعرف أنه لا حق لك فيها، وأنك ظالم ومعتد بأخذك ما ليس لك.
ومعلوم أن كثيراً من المتخاصمين يعرفون خطأهم، وأنهم في نفس الأمر ليس لهم حق في هذه البقعة، وأنهم معتدون في دعواهم، لكن ما الذي يحملهم على هذه المخاصمات وهذه المرافعات والشكايات التي قد تطول مدةً طويلة، والواحد منهم يجعل من يحامي ويجادل عنه، ويلصق الأكاذيب ويلفق الحجج، فيجمعها وهو في نفس الأمر يعرف أنه كاذب وأنه لا حق له؟ فالذي يحمله هو الطمع الذي يريد به أن يكتسب مالاً أو يكتسب بقعاً لا حق له فيها، أو إنما هي ملك الله يؤتيه من يشاء، فتكثر في ذلك المنازعات، مع أنه يعرف الحق من الباطل.