فأما الاستعاذة من هذه الأربع فهي بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورد الاستعاذة من النار، وورد الاستعاذة من جهنم، وكلاهما سواء، فإن النار هي جهنم؛ لأن جهنم اسم من أسمائها، قيل: إن النار سبع طبقات، وقيل: إن لها سبعة أسماء مشهورة، فمن أسمائها جهنم.
فيقول:(اللهم إني أعوذ من عذاب جهنم -أو يقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم- ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) ، فعذاب جهنم يكون بعد البعث وقد يكون بعضه في البرزخ، فإن الأموات في البرزخ يأتيهم من حرها وسمومها، وعذاب القبر يكون في البرزخ بعد الموت.
يؤمن أهل السنة بوجود عذاب القبر وإن لم يكن مشاهداً، يعني: أننا لا نشاهده، وقد نحفر القبر ولا نشاهد فيه نعيماً ولا عذاباً ولا أصواتاً ولا غير ذلك، ولكن الأموات في عالم غير عالمنا؛ لأن الميت قد انتقل من عالم الدنيا، وأصبح في عالم اسمه عالم البرزخ، فالعذاب والنعيم على الروح التي قد انفصلت من الجسد، والروح نحن لا ندركها، ولا ندري ما كيفيتها؛ لأن الله تعالى حجبها عن معرفة البشر، قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:٨٥] .
فالعذاب في القبر والنعيم على الأرواح، والأجساد تبع لها، فما دام أننا نؤمن بأن عذاب القبر حق؛ فإننا نستعيذ بالله منه، وإن لم نشاهده بالعين، وكان قد كشف لبعض العلماء عن بعض الأشياء فرأوا بعض العلامات ونحوها.
وعلى كل حال عليه أن يستعيذ من عذاب القبر، ثم يستعيذ من فتنة المحيا والممات، والفتنة في الأصل هي الاختبار، ومنه قولهم: فتن الحداد الحديد أو فتن الذهب والفضة، يعني: اختبره حتى ميز ما هو صحيح وما ليس بصحيح، ثم تطلق الفتنة على الابتلاء في الدنيا، كون الإنسان يبتلى بعذاب أو يبتلى بسجن أو بضرب مثلاً أو بأذى من أنواع الأذى، أو يبتلى بمرض أو بفقر أو بفاقة، أو بشدة مئونة، أو بهم وغم أو نحو ذلك من الابتلاء، فهذه من فتن الدنيا فيستعيذ بالله منها، ومن ذلك فتن الشبهات والشكوك التي يروجها المبتدعة، ويروجها دعاة الضلال، ويدعون بها إلى الشك وإلى الشرك وإلى المعاصي وإلى الكفر ونحو ذلك، فيدعو أيضاً بأن يؤمنه الله تعالى ويعيذه من فتنة المحيا، من الفتنة التي تأتي في هذه الحياة، والتي تأتي عند الموت، ويدخل في فتنة الموت عذاب القبر، أو الفتنة عند خروج الإنسان من الدنيا عند الممات، والحاصل أنه يستعيذ من هذه الفتن.
كذلك أيضاً من فتنة المسيح الدجال، وهو من أعظم الفتن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر في عدة أحاديث بأن الدجال يخرج في آخر الدنيا، وأنه يفتتن به خلق كثير، وأنه يدعي أنه هو الرب، ويكون معه آيات أو معجزات يفتن بها الناس، فالإنسان يستعيذ بالله من أن يدركه، أو أن يفتتن به إذا أدركه، وأصل الاستعاذة الاحتماء والتحصن والتحفظ، إذا قال مثلاً: أعوذ بالله، فمعناه: ألتجئ وأعتصم وأتحفظ وأحترس وأستجير بالله تعالى، يشعر بأن هذه الشرور تتوارد عليه، وأن هذه الفتن ونحوها تتكاثر عليه إذا لم يحمه ربه عنها، وخيف عليه أن تفتنه وأن تضله فهو يقول: الله تعالى هو الذي يحفظني منها، وهو الذي يحرسني، وأنا على خطر إذا لم يحفظني ولم يحطني بعنايته، فهذا هو السبب في كونه يقول: أعوذ، يعني: ألوذ وأستجير وأحتمي وأعتصم وأتحصن وأستجير بالله ربي أن يعذبني بعذاب جهنم، أو يسلط عليّ شيئاً من فتن الدنيا، أو من فتن المحيا والممات، أو من فتن المسيح الدجال، فإذا استعاذ بالله تعالى شعر من نفسه بأنه عاجز عن مقاومتها، وأنه لا قدرة له على التحفظ عنها إلا إذا أعاذه الله تعالى وحفظه وحماه، فهو الذي يحفظ العبد منها.