وذكر في الحديث الثاني اللعن، فقال:(لعن الله اليهود والنصارى) ، ولم يذكر ذنبهم إلا أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وعرفنا أن المساجد المراد بها: المصلى، سواء أكانت مبنية كهيئة المساجد ذوات المحاريب، أم كهيئة الكنائس والصوامع والأديرة التي يتعبدون فيها، أم كانت مقصودة للصلاة عندها وإن لم يكن هناك مسجد، بل يقصدونها لأداء الصلاة عندها، فهؤلاء كلهم قد تشبهوا باليهود الذين يقصدون القبور ويسمونها مشاهد ويعمرونها بالصلاة عندها، قد تشبهوا باليهود، وقد استحقوا ما استحقه اليهود من اللعن (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قال ذلك في آخر حياته، فلما علم أن أجله قد قرب خشي أن يتخذ قبره مسجداً.
وأما إدخال القبر في المسجد -كما هو عليه الآن- فهذا حصل بعد ذهاب الصحابة، وبعد موت الصحابة بالمدينة كلهم، وفي عهد أحد خلفاء بني أمية لما أراد توسعة المسجد واضطر إلى توسعته من الجهات كلها أدخل في ذلك حجر أمهات المؤمنين، ورأى أن ذلك من الضرورة لتوسعته، ولكن جعلوا القبر في زاوية من زواياه، وجعلوا عليه ثلاثة جدران على هيئة المثلث، حتى لا يتمكن أحد من استقباله، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قد دعا الله بقوله:(اللهم! لا تجعل قبري وثناً يعبد) ، فأجاب رب العالمين دعاءه فأحيط بثلاثة جدران.
وعلى كل حال فلا يزال -بحمد الله- محفوظاً، لا أحد يعبده ولا يطوف به ولا يتمسح به ولا يهتف باسمه ولا غير ذلك، ولو كان في جانب المسجد، والمسجد معروف انفصاله ومعروف أصله، وعلى كل حال فلا يقال إنه وقع ما حذر منه، بل هو دفن في حجرته التي مات فيها، والتي هي حجرة عائشة، ودفن معه أبوها أبو بكر، ثم دفن معهما عمر، فالثلاثة دفنوا في حجرة عائشة، وكانت منفصلة عن المسجد، ولولا أنه خاف أنه إذا أبرز يأتي إليه الجهلة ويتمسحون به ويطوفون به ويذبحون عنده ويتخذونه وثناً أو يصورون صورته وينصبونها وينحتونها أو نحو ذلك، لولا ذلك لأبرز قبره، فلما سمعوا تحذيره من فعل اليهود والنصارى لم يبرزوه خوفاً عليه، بل تركوه بمكانه حتى يكون محفوظاً مراقباً من جهة أهل المسجد، ومن جهة سكان الحجرات ونحو ذلك.
فهذا يدل على أنه لا يجوز البناء على القبور، وقد وردت أدلة كثيرة في النهي عن البناء على القبور، والنهي عن اتخاذ السرج عليها، والنهي عن تجصيص القبر وتشييده، وكل ذلك مخافة أن يغتر به الجهلة، فالجهلة إذا رأوا هذا القبر مشيداً مرفوعاً مجصصاً قالوا: هذا دليل على أنه قبر شريف وقبر فيه صالح.
فينخدعون بذلك ويتمسحون به، ويصرفون له شيئاً من حق الله تعالى.