[كيفية تطهير بول الكبير من الأرض والثياب وغيرهما]
وذكر بعده حديث أنس في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وذكر: أن ذلك الأعرابي يقال له: ذو الخويصرة، وكان رجلاً جافياً، وكان على عادته وعلى جهله، فهو لم يكن على علم بحرمة المساجد وبما يجب أن تنزه عنه وتنظف، فهو لما انتهى من الصلاة والناس في المسجد قام إلى ناحية من المسجد وجلس يتبول فيها، فلما رآه الناس على هذه الهيئة زجروه زجراً بليغاً وقالوا: مه مه! وأرادوا أن يقوموا عليه ليقطعوا بوله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك، وذلك رفقاً به، وقال في آخر الحديث: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) .
وقد بين العلماء سبب نهيه لهم عن أن يقطعوا عليه بوله؛ وذلك أنه لا شك سيشق عليه قطع بوله، إذا كان قد بال بعض البول ثم قام قبل أن يكمله شق ذلك عليه، وأيضاً من الأسباب: أنه قد يتلوث المسجد وتنتشر النجاسة، فلو قام وهو يبول لوقع البول في أكثر من موضع، بخلاف ما إذا ترك حتى ينتهي، فإن البول يكون في موضع واحد ويمكن إزالته، أما لو قام فإنه سيتقاطر من هنا ومن هنا، وهكذا لو قام قبل أن يتكامل بوله لتنجس جسده ولتنجست ثيابه، ولكن من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ومما أعطاه الله تعالى من الرفق ومن التيسير أن تركه إلى أن انتهى من بوله، فعند ذلك أمرهم بأن يصبوا عليه ماءً، فصب على ذلك البول حتى زال أثره، وذلك بالمكاثرة.
فأخذ العلماء من هذا أن نجاسة الأرض بالبول تطهر بالمكاثرة، بحيث تغمر بالماء إلى أن تذهب عين النجاسة، بدون أن يحتاج إلى تكرار صب أو تكرار دلك أو نقل التراب المتنجس أو نحو ذلك.
ما نقلوا أنه أمر بحفر التراب المتنجس، بل ترك ذلك التراب الذي فيه البول على حاله وصب عليه دلواً من ماءٍ، ولا شك أن الدلو أكثر بكثير من ذلك البول، فلا شك أنه سيغمر البول وسيزيل أثره، وسوف يطهره ولا يبقى له عين ولا تبقى الأرض متنجسة، بعد ذلك يجوز أن يصلى في ذلك المكان؛ لأنه قد طهر، ولا حاجة إلى تكرار الصب بل يصب مرة واحدة.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه ينقل التراب المتنجس، ولكن لا دلالة في الحديث على نقله، ولم يأت ما يدل على ذلك، وذهب بعضهم إلى أنه يغسل ويكرر، فإذا شرب الماء صب عليه مرة ثانية، فإذا شربه صب عليه ثالثة وهذا أيضاً لا دليل عليه، ولا حاجة إلى التكرار، بل يكتفى بأن يصب عليه مرة واحدة ويطهر بهذا الصب دون أن يحتاج إلى تكرار الغسل.
كذلك أيضاً يقاس عليه كل ما كان ملتصقاً بالأرض، هناك مثلاً الفرش التي تكون ملصقة بالأرض يشق أن ترفع، كهذه الفرش التي في المساجد والتي أحكم فرشها وألصقت بالبلاط ونحو ذلك، فإذا وقعت عليها النجاسة اكتفي بغمرها بالماء، يصب عليها ماء وتكاثر به، وتزول عين النجاسة بهذه المكاثرة.
أما إذا كانت الأرض لا تتشرب النجاسة كالأرض المبلطة فإن هذه الأرض إذا وقعت عليها النجاسة يكتفي بأن يصب عليها الماء كما صبت عليها النجاسة؛ وذلك لأن مثل هذه الأرض تنتشر فيها النجاسة، فإن كانت النجاسة باقية مستنقعة فإنها تنشف بخرقة أو إسفنج أو نحوه، وبعد ذلك يصب عليها ماء وينشف إن بقي شيء من الماء المصبوب.
أما إذا شرب البلاط تلك النجاسة فإنه لا يحتاج إلى تنشيف وإنما يصب عليه ماء إلى أن يغمره.
وأما إذا كانت النجاسة على الجدران ونحوها، فإن العلماء أيضاً ألحقوها بالنجاسة التي على الأرض، واكتفوا بأن يصب عليه الماء، ومعلوم أن الماء لا يستقر على الحائط وإنما يرش عليه رشاً كما تطاير عليه رشاش النجاسة، أو يصب عليه ماء أو ينضح عليه نضحاً إلى أن يطهر.
وأما إذا كانت النجاسة على ثوب أو على بدن فقد تقدم أنه يغسل نجاسة الكلب سبعاً، وبعض العلماء يقول: بول الآدمي وغائطه تغسل سبع مرات من باب الاحتياط، ولكن لا دلالة أيضاً على هذا التكرار، والأصل أنه يكتفي بغسلها مرة واحدة أو مرتين أو مرات، بحيث يزول عين النجاسة وأثرها، وإذا كانت النجاسة مثلاً في قدح وغسلت غسلة أو غسلتين ولم يبق للنجاسة أثر من لون ولا رائحة ولا تغييراً للماء، فلا حاجة إلى تكرار الغسل.
ومعلوم أيضاً أن تطهير النجاسات لا يحتاج إلى النية، بل تطهر بمجرد الغسل وإن لم يكن هناك من يغسلها، فإذا وقع البول مثلاً على الأرض وجاء المطر فغسله طهرت، وهكذا لو كان على ثوبك نجاسة ثم إنك علقته فنزل مطر كثير قغمره أو خضت به وهو عليك في سيل أو في بحر وزال من أثر ذلك عين النجاسة، طهر الثوب وإن لم تنو غسله وإن لم تكن متذكراً؛ لأن إزالة النجاسة من باب التروك فلا حاجة إلى نية.
وفي هذا الحديث يظهر رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم وحرصه على التأليف وعدم الإيذاء؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) .