للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أركان الحوالة وشروطها]

قوله: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ، هذا الحديث يتعلق بالحوالة، والإتباع هو: الإحالة، وقد ذكر العلماء أن أركانها أربعة: -المحيل.

-والمحال عليه.

-والمحتال.

-والمحال به.

فلابد من رضا المحيل؛ لأنه صاحب الدين، ولابد من رضا المحتال إذا كان المحال عليه مفلساً أو معسراً، وأما إذا كان المحال عليه مليئاً فلا يشترط رضا المحتال.

فمثلاً: إذا كان لك دين عند زيد، وجاءك عمرو يطلب منك ديناً هو عندك له، فقلت له: أحلتك على زيد، فإن عنده لي ديناً، وزيدٌ غني قادرٌ على الوفاء، ففي هذه الحالة يلزم عمراً أن يذهب إليه، ويقبض منه حقه، فأنت المحيل وافقت على أنه يقبضه، وعمرو هو المحتال رضي بذلك، وزيد هو المحال عليه لا يشترط رضاه؛ وذلك لأنه يلزمه وفاء الدين الذي في ذمته لك أو لوكيلك، فالمحتال كأنه وكيل عنك، يقوم مقامك في القبض.

فيشترط أن يكون المحال عليه مليئاً، فإن كان المحتال لا يعرف حال المحال عليه، يظنه من أهل الملاءة والثروة، ولكن ظهر أنه مفلس لا قدرة له على الوفاء، فيرجع إليك؛ لأنك أحلته على مفلس، فالإحالة لا تكون إلا على مليء يتمكن من الوفاء، والمليء هو المليء بقوله، والمليء ببدنه، والملي بماله.

المليء بقوله هو: أن يكون بشوشاً سهل الجانب يتقبل طلبك، فأما إذا كان عبوساً شرساً ثقيل الكلام، سيء الأخلاق، يلقاك بوجه عبوس، ويردك رداً عنيفاً، ولو كان عنده أموال كثيرة، ولكنك إذا أقبلت عليه نفر في وجهك، وعبس عليك، واشتدت نظرته إليك؛ فأنت تحتشم أن تذهب لاقتضاء الحق منه؛ فلا تقبل الإحالة عليه.

كذلك مثلاً: إذا كان سهل الجانب، سلس القول، لين الكلام، لطيف المقال، وكثير المال، ولكن له منصب ومكان رفيع، ولا تقدر أن تصل إليه، وإذا أقبلت إليه رُدعت دونه؛ وبينك وبينه أبواب وحجاب وحراس فلا تصل إليه، ولا تقدر أن تشتكيه؛ لكونه ذا منصب ورفعة، لا يجلس معك عند الحاكم، ولا تقدر أن ترافعه، فلك والحالة هذه أن ترجع إلى المحيل؛ لأنه ليس مليئاً بقوله وببدنه، بل لابد أن يكون مليئاً ببدنه وبقوله وبماله.

فإذا تمت هذه الشروط انتقل الحق من ذمتك -أيها المحيل- إلى ذمة المحال عليه، وبرئت -أيها المحيل- وأصبح الحق واحداً، وبدل ما كان الحق على اثنين يصبح على واحد؛ وذلك لأنك عليك حق لزيد، ولك حق على عمرو، فجاءك زيد يقتضي، فقلت: لي حق على عمرو، فذهب إليه، فيصبح الحق واحداً بدل ما كان على اثنين.

ولابد أن يكون الدين الذي لك والدين الذي عليك من جنس واحد، فإن كان الدين الذي عليك ذهباً، والدين الذي لك فضة، أو الدين الذي عليك ريالات سعودية، والدين الذي لك دولارات أمريكية؛ فإن الدين مختلف؛ فلا تصح الإحالة هذه؛ وذلك لأن من شرطها أن يتفق الدينان؛ ولأن الريال سيصرف من غير تقابض، والصرف -الذي هو تحويل العملة إلى عملة أخرى أو بيع نقدٍ بنقد- لابد فيه من التقابض، فاشترط فيه أن يكون الدينان من جنس واحد، حتى ولو لم يكونا نقوداً، فلو كان الدين الذي عليك طعاماً، والدين الذي لك هو طعام، فإنه تجوز الإحالة، فتحيله ببر على بر، أو بتمر على تمر، أو بقماش على قماش من جنسه، أو ما أشبه ذلك، كل ذلك الحوالة فيه جائزة، وذلك لأن هذا ونحوه مما جاءت الشريعة بإباحته، تسهيلاً على العباد، وتهويناً عليهم.

ثم لابد أن يكون المحيل والمحال عليه في بلد واحد، أما إذا كان المحال عليه في بلد بعيد، بحيث إن المحتال يتكلف السفر، ويصرف أموالاً في السفر في الذهاب والإياب؛ فإن له ألا يقبل الإحالة؛ وذلك لأنه والحال هذه عليه مشقة.

فعرف بذلك أن هذه المعاملة -التي هي الحوالة- الأصل فيها أنها شرعت للتسهيل على العباد، ولئلا يتكلف الإنسان الطلب مرتين، بل يكون الطلب مرةً واحدة، وأمر المحتال أن يذهب إلى المحال عليه تخفيفاً على المحيل، وأمر المحال عليه أن يدفع له، وألا يماطله، فكما يدفعه إلى صاحبه يدفعه إلى وكيله.