الحديث الأول يتعلق بصلاة النساء في المساجد، وكان نساء يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم حرصاً على الاقتداء به، وحرصاً على مضاعفة الصلاة، وحرصاً على الصلاة في المسجد، ولكن كُنَّ محتشمات في غاية التستر، كما قالت عائشة:(كان نساء يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلففات بمروطهنَّ، ينصرفن ولا يعرفهنَّ أحد من الغلس) وكونها متلففة، أي: مرتدية بردائها بحيث إنها تخرج متسترة في غاية التستر.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإذن لها في هذا الحديث:(إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها) ، وفي الرواية الثانية:(لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)(إماء الله) جمع أمة، الأمة هي المملوكة، أي: أنهن ملك لله كما أنكم ملكه، فأنتم عبيد الله وهن إماء الله، وكما أنكم تعبدون الله وأنتم مماليك له، فكذلك نساؤكم يعبدن الله وهن مماليك له، وكما أنكم ترغبون في الخير وتحبون مضاعفة الأجر فهنَّ كذلك يرغبن في مضاعفته.
وقد كان نساء يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تحضر المرأة ومعها طفلها، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:(إني لأكبر في الصلاة أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأوجز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه) ، وهذا يدل على أن أمه قد كبرت للصلاة، وأنها لا تتفرغ له حتى تنصرف من صلاتها، ولو بكى ولو صرخ، فهو عليه الصلاة والسلام يراعي شفقتها، ويخفف الصلاة التي كان يريد إطالتها.
ولكن ثبت أيضاً أنه حث النساء على البعد عن الرجال، وحث الرجال على البعد من النساء، فقال عليه الصلاة والسلام:(خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها) ، يعني: أن آخرها أقرب إلى النساء فهو شرها، (وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) ، لما كان أولها قد يتصل بصفوف الرجال أو قد يراه المتأخرون من الرجال كان شرها، وكان خيرها آخرها لكونه بعيداً عن الرجال، وهذا فيما إذا كان النساء متصلة صفوفهن بصفوف الرجال، وليس بينهم شيء من الحواجز، فمثل هذا يكون آخر صفوف النساء خيرها، أما إذا كان بينهم حاجز منيع -كما في هذه الأزمنة حيث يستمعن الصلاة بواسطة المكبر ولو كن بعيداً- فنرى أن صفوفهن كصفوف الرجال، يعني: أن أولها خيرها لعدم الاختلاط.
في هذا الحديث أن ابن عبد الله بن عمر كأنه حملته الغيرة على نسائه فهمّ أن يمنع امرأته أو يمنع نساءه من المسجد، وكأنه رأى أن خروج النساء فتنة، فقال:(والله لنمنعهنَّ) ، ولما تكلم كلاماً بدون تأدب ويظهر منه الاعتراض على الحديث؛ غضب والده وسبه على هذا الاعتراض، إذ كيف يعترض على قول النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضاً بدون مقدمات؟! ومعلوم أنه رحمه الله إنما حملته الغيرة، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:(لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهنَّ المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل) ، وذكرت عائشة أن النساء في زمنها أحدثن أشياء تستحق المرأة أن تُمنع لأجلها، وكأنها رأت شيئاً من التجمل ومن اللباس ومن التعطر الذي قد يخشى منه الفتنة، وذلك لأن خروج النساء فتنة كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:(إنكنَّ تفتنَّ الحي وتؤذين الميت) .
فخروجها إذا كان في زمن قد استتب فيه الأمن، وقد عرف الناس فيه الحق وعملوا به، ولم يكن هناك شيء من الخوف، وكان الناس على جانب متين من الديانة، وكان الرجال معهم الورع، ومعهم الخوف من الله تعالى، والنساء معهنَّ الاحتشام والتستر والبعد عن الاحتكاك بالرجال والبعد عن الفتنة وأسباب الفتنة من التعطر والتجمل والتكشف والتطيب وما أشبه ذلك، إذا كان ذلك كذلك فإنها تخرج، فأما إذا تغيرت الحال -كما ذكرت عائشة - فإن الأولى أن تجلس في بيتها كما نص على ذلك العلماء وكما ورد في بعض الأحاديث، ففي حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال:(صلاتها في مسجد حيها أفضل من صلاتها في المسجد الكبير -الجامع-، وصلاتها في سوقها أفضل من صلاتها في مسجد حيها، وصلاتها في رحبة دارها أفضل من صلاتها في مسجد الحي، وصلاتها في أقصى حجرتها أفضل من صلاتها في رحبة بيتها) فكانت المرأة تتحرى أظلم مكان في بيتها فتصلي فيه ولو أنها متسترة.