للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى الكسوف وأسباب حدوثه]

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب صلاة الكسوف.

عن عائشة رضي الله عنها: (أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة.

فاجتمعوا، وتقدم فكبر، وصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات) .

وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته، فإذا رأيتم منهما شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) .

والله أعلم] .

هذا باب صلاة الكسوف، ويطلق الكسوف والخسوف على انمحاء النيرين، المحو الذي يكون في النيرين -الشمس والقمر- يسمى كسوفاً وخسوفاً، وقد ذكر في القرآن باسم الخسوف في قوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:٨] ، وهذا الخسوف من الحوادث التي تحدث في هذه الكواكب التي سيرها الله تعالى وجعلها آية لعباده، يقول الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:٥] يعني أنهما سائران بحساب محدد.

ويقول في آية أخرى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:٣٨] أي: تجري إلى مستقر لها.

ثم يقول: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٤٠] ، فهذه الكواكب التي يسيرها الله في هذا السماء هي مسيرة ومذللة بأمر الله تعالى، يشاهدها العباد تطلع وتغرب، ويشاهدون الشمس والقمر تارة مجتمعين ببعضهما كأول الشهر أو آخره، وتارة يكون بينهما بعد ما بين المشرقين، فتكون الشمس في المشرق والقمر في المغرب، أو بالعكس، وذلك دليل على أنهما يسيران بحسبان، فالقمر له منازل، كما في قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:٣٩] يعني: جعلنا له كل ليلة منزلة ينزلها.

فهذا دليل على أن الله هو الذي يسيرها ويسخرها كما شاء، قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد:٢] أي: كل منهما جار إلى أجل مسمى محدد بأمر الله تعالى.

وأجرى الله تعالى العادة بأنه يحصل اضمحلال في هذين النيرين - الشمس والقمر-، يحصل هذا الاضمحلال والمحو الذي يسمى كسوفاً وخسوفاً، ولا شك أن حصوله تغير ظاهر مشاهد معروف، هذا التغير الظاهر لابد أنه آية من آيات الله.

وبين أيدينا هذا الحديث الذي ذكر فيه أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وآيات الله بمعنى الدلالات التي نصبها لعباده ليستدلوا بها على كمال قدرته، وعلى وحدانيته، وعلى أنه المتصرف في الكون وحده دون غيره، فإذا عرف العباد ذلك استدلوا على عظمته وجلاله بهذه الأشياء، فهذا تسميتها آيات، فهما آيتان من آيات الله، أعني الآيات الكونية التي يشهدها العباد ويرونها.

وهذه الآيات التي جعلها الله علامات ودلالات على كمال قدرته وكمال تصرفه يعتريها هذا التغير الذي أجراه الله وجعل له أسباباً خفية أو جلية، وأمرهم إذا شاهدوا هذه الأسباب أن يحدثوا عبادة، وأن يحدث لهم شيء من الخوف وشيء من الوجل، وذلك لأن هذا التغير يحدث تغييراً في النفوس، فيكون ذلك سبباً للخوف، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:٥٩] أي: ما نحدث من الآيات الكونية في النيرين وفي السماء وفي الأفلاك وفي النجوم إلا لأجل أن يخاف العباد، فإذا رأوا هذه الأمور متجددة يتجدد لهم الخوف من الله تعالى وتوقيره وتعظيم حدوده.

ولا شك أن الخوف يسبب انزعاجاً في النفوس، هذا الانزعاج لابد أن يفزع العباد فيه إلى عبادة ربهم، ومعلوم أن العبادة تتمثل في الصلاة، والصلاة هي أمثل العبادات وأشهرها وآكدها، فلذلك شرعت في الكسوف صلاة تسمى باسمه (صلاة الكسوف) ، وهذه الصلاة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبتت عن صحابته ثبوتاً قطعياً كثبوت كسوف الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما مات ابنه إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم.

فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى بهم صلاة الكسوف، وأخبرهم بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، إنما هما آيتان مما يخوف الله به عباده، فلا يجعلوا سببهما موت فلان أو ولادة فلان أو غير ذلك، بل عليهم أن يعتبروهما من الآيات والدلالات، ويعتبروهما من أسباب التخويف.

قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة) ، وفي بعض الروايات أنه حث على الذكر وعلى الصلاة والصدقة والعتق والأعمال الصالحة التي تكون سبباً للنجاة؛ مخافة أن يكون ذلك قرب الساعة أو قرب عذاب، أو مقدمة بين يدي عذاب شديد أثاره غضب الله تعالى على العباد بسبب معاص اقترفوها، فعليهم أن يفزعوا إلى الصلاة.

نقول بعد ذلك: هذا الكسوف الذي يحدث للشمس ويحدث للقمر له أسباب، وأسبابه قد تعرف بواسطة السير وتسيير الشمس والقمر، ولكن معرفتها ومعرفة تحديد أوقاتها لا يدل على أنها ليست آية من آيات الله، ولا يدل على أنها ليست مما يخوف الله به العباد، بل هي آيات الله، وآيات كونية، وهي مما يحصل به التخويف، ولكن مع ذلك كله قد تعرف أسبابها بالحساب وبالمقدمات وبسير الشمس والقمر.

وقد ذكروا أن سبب كسوف الشمس أن القمر في آخر الشهر قد يحول بيننا وبينها، وذلك لأن سير الشمس أسرع من سير القمر، فتدركه وهو سائر؛ لأن القمر في أول الشهر قد يكون أمامها -مثلاً- أو في آخر الشهر فتدركه، فإذا أدركته حال بينها وبيننا، فإذا حال بينها وبيننا عند ذلك اختفت الشمس أو اختفى جزء منها، فاختفى ضوؤها ونورها، فذلك هو الكسوف.

ولا شك أن هذا -أي: الحيلولة دونها- آية من آيات الله، فكيف بقمر هذه علاماته وهذه آثاره، ومع ذلك يغطي ضوء الشمس أو جزءاً من ضوئها، وذلك يسبب لنا الخوف، ويسبب لنا الانزعاج ونحو ذلك.

أما كسوف القمر فذكروا أن الشمس تنير القمر وتضيئه، وأن ضوءه يأخذه من الشمس، فيستمد ضوءه ونوره من الشمس، ففي وسط الشهر تحول الأرض بينه وبينها، فلا تحصل مقابلته لها حتى يشع فيه نورها، فيحصل بذلك هذا الانمحاء الذي في القمر أو في جزء منه.

ولا شك -أيضاً- أن هذا آية من آيات الله، كيف أن هذا الجرم الكبير يحال بينه وبين هذه الشمس البعيدة التي هي بعيدة عنه، أجرى الله ذلك بقضاء وقدر، فما دام كذلك فإنه مما يخاف من حدوثه، ومما يوجب على المسلمين أن يحدثوا عبادة تدل على تعظيمهم لما عظم الله، وخوفهم من آيات الله التي تتجدد، والتي يخشى أن يكون وراءها غيرها، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:٥٣] يعني: نطلعهم على آيات وبراهين ودلالات وحوادث جديدة في الآفاق التي هي الأفق الغربي والشرقي ونحوهما، ونريهم -أيضاً- آيات في أنفسهم، فليعتبروا بذلك.