أما الحديث بعده فيتعلق بموجب الغسل، وهو الجماع، ولا شك أن الجماع يسبب الجنابة، قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:٦] ، والجنب هو الذي عليه حدث أكبر، وهذا الحدث يحصل بسبب الجماع أو الاحتلام أو ما أشبه ذلك، فإذا جامع وأنزل فإن عليه الاغتسال اتفاقاً، ولكن اختلف فيما إذا جامع ولم ينزل، كما إذا أعجل مثلاً أو أنه لم يحصل منه الإنزال، فهل عليه أن يغتسل أم لا؟ رويت أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ترك الاغتسال مع عدم الإنزال، وقال:(إنما الماء من الماء) ، يعني: ماء الاغتسال يجب بوجود الماء الذي هو نزول المني، ولما طرق على رجل من الأنصار وكان على امرأته فقام قبل أن ينزل فاغتسل، قال عليه السلام:(إذا أعجل أحدكم أو أقحط فعليه أن يغسل ما أصابه منها) ، ولم يأمره بالاغتسال، قالوا: فهذه الأحاديث التي فيها أن الماء من الماء كانت رخصة في أول الإسلام لقلة الثياب ولضعف الحال، فلما وسع الله عليهم، عند ذلك أمروا بأن يغتسلوا من الجماع، ولو لم يكن هناك إنزال.
فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) ، يعني: إذا أولج الرجل إلى أن غيب رأس الذكر ووصل إلى محل الختان فقد وجب الغسل، كذلك هذا الحديث الذي عندنا:(إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها) ، وشعبها: يداها ورجلاها، عادة أنه يجلس عليها، ثم بعد ذلك يجهدها بقوته، فإذا فعل ذلك عادة أنه يولج بعض الإيلاج، فإذا حصل أن أولج إلى أن التقى الختانان فإن هذا من موجبات الاغتسال.
بل تترتب عليه الأحكام كلها، فيترتب عليه الحد فلو أن الزاني لم ينزل ولكن حصل منه أن أولج رأس الذكر، فإنه يجب به الحد، فيرجم إن كان محصناً ويجلد إن كان غير محصن، فما دام أنه يجب به الحد فكذلك يجب به الاغتسال، وهكذا أيضاً إذا دخل بالمرأة وجامعها وإن لم ينزل، يعني: لو أولج رأس الذكر ثم جهدها ولم ينزل فإنه يستقر عليه الصداق، حتى لو كان الصداق مائة ألف أو أكثر فإنه يستقر بهذا، وكذلك يوجب العدة ونحو ذلك من الأحكام.
فكذلك نقول: يوجب الاغتسال ولو لم يكن هناك إنزال، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى، في قوله:(وإن لم ينزل) .
معلوم أن الإنزال هو الأصل وأن الإنسان يحصل له فتور بعد الإنزال وبعد خروج المني، ولا تبرد شهوته غالباً إلا بالإنزال، فبعض الناس ينزل وإن لم يجامع، وبعضهم يجامع ولا ينزل، ولكن تبرد شهوته بذلك ويسمى جماعاً، فالجميع من موجبات الاغتسال.
هذا هو الصحيح الذي دل عليه هذا الحديث وغيره من الأحاديث، وهو الذي استقر عليه عمل الصحابة آخر الأمر، وانقطع الخلاف الذي كان قديماً بينهم.