للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه)]

أما حديث علي رضي الله عنه فيقول فيه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أقسم جلودها وأجلتها على المساكين، وأن لا يعطي الجزار منها شيئاً وقال: نحن نعطيه من عندنا) ، وكان ذلك في حجة الوداع، حين صف صلى الله عليه وسلم البدن وأمر بأن تنحر، فدعا بسكين فجعل ينحر بيده حتى نحر بيده ثلاثاً وستين، ثم أعطى علياً فنحر ما بقي، ولما سقطت جنوبها احتاجت إلى من يسلخ جلودها وإلى من يقطع لحومها، فدعا جزارين يساعدون علياً، وأمر علياً أن يقوم عليها ويراقبها حتى تقسم، فأمره بأن يقوم عليها، فبدأ أولاً بسلخها وأخذ جلودها، وهي مما ينتفع به، فتصدق بها على المساكين الذين ينتفعون بها، وبعد ذلك لحومها قطعها وفرقها على المساكين أو أذن لهم فيها، وفي بعض الروايات أنه: (لما نحر عشراً وتساقطت قال: من شاء اقتطع) يعني: من أراد فليأت ويقتطع لنفسه ما أراد، أي: قدر حاجته، ولكن الحديث المشهور أنه أمر علياً أن يأتي بجزارين وأن يقطعوها ويعطوا هذا ويعطوا هذا، حتى قسمها كلها على المساكين.

وكانوا أيضاً قد جعلوا على ظهورها أجلة -أكسية من صوف أو نحوها- تحميها عن الشمس، وتحميها عن النسور وعن الغربان ونحوها حتى لا تنقر ظهورها- وتلك الأجلة قد أخرجها لله، فأمره أن يتصدق بالأجلة أيضاً ولا يستعيدها، وكذلك أيضاً القلائد التي في رقابها يتصدق بها، وكل شيء اتصل بها أخرجه لله، فليس له أن يسترجع شيئاً منها، هكذا أخبر في هذا الحديث: (أن أقوم على بدنه) -يعني: أراقبها- (وأن أتصدق بلحمها على المساكين) ، وجلودها عليهم، وأجلتها على من يحتاج إليها ومن ينتفع بها، وأما الجزارون فلم يعطهم من لحمها على أنه أجرة لهم، وذلك لأن تقسيمها، وكذلك تقطيعها من تمام تمكين المساكين منها، والجزار أجرته على صاحبها، فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن نعطيه من عندنا) لا نعطيه أجرته لحماً، أما إذا كان فقيراً فإنه يأخذ من لحمها صدقة مع سائر المستحقين.

وهكذا يقال أيضاً في الأضحية، فمن ذبح لك أضحية فلا تعطيه أجرته منها، بل أعطه أجرته من غيرها، وإذا كان مستضعفاً فأعطه من لحمها كسائر المستضعفين، هذا حكم الأضاحي.

وفي ذلك الوقت كان اللحم له قيمته، أعني لحم الإبل ولحم البقر ولحم الغنم، كان المساكين والحجاج كثيرون، وكان الذين ساقوا هدياً قلة، فالذين معهم هدي قليل والأكثرون ضعفاء لم يكن معهم ما يحملهم، أي: ركائبهم التي تحملهم.

فلذلك كان فيهم ضعف وحاجة إلى اللحم، فلما ذبحت هذه اللحوم اقتسموها وأكلوها، ولم يبق منها شيء في يومها يوم العيد، وانتهت تلك المائة من الإبل التي أهداها النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم غيرها أيضاً مما أهداه غيره، ومع ذلك لم يبق منها شيء، ولم يفسد منها شيء.

أما في هذه الأزمنة فإنه لكثرة اللحوم فقد لا يقال باستحباب الهدي ما دام أن اللحوم في هذه الأزمنة لا ينتفع بأكثرها؛ إذ أنه غالباً يبقى كثير منها في بيوت الجزارة وتدفن -مثلاً-، أو تحرق، أو تترك حتى تنتن، أو يؤخذ منها شيء قليل والبقية تفسد؛ لأجل ذلك لم ير العلماء استحباب ذبح الهدايا أو استحباب الإهداء، واقتصروا على فدية التمتع وفدية القران ونحوها، فالإنسان إذا حج متمتعاً فليس عليه إلا فدية وهي شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة، وأما كونه يهدي مائة من الإبل، أو يهدي عشراً من الإبل يذبحها فمن الذي ينتفع بها؟ قلّ أن يؤكل منها شيء؛ خاصة لحوم الإبل، وكذا لحوم البقر، وكذلك يقال في الغنم وإن كان في الغنم قد يوجد من يأكلها، وأما الفدية التي هي فدية التمتع والقران فهذه لازمة لكل من كان عنده فدية وعنده قدرة على ذبحها، ومن لم يجد فعليه الصيام كما ذكر الله تعالى، وعلى كل حال فهذه هي سنية الهدي، أنه تسن إذا كان ينتفع به، ولا تسن إذا لم يكن ينتفع به، فلو جاء زمان واحتيج فيه إلى اللحوم وقلّت فيه الهدايا وصار أكثر الحجاج لا يهدون ويقتصرون على الصيام مثلاً، أو يحرمون مفردين دون أن يتمتعوا وقلت اللحوم فحينئذٍ يعود الأمر إلى حالته وتشرع كثرة الهدايا لمن كان عنده فدية حتى توزع وتعم المسلمين في ذلك المكان، وحتى يتمكنوا من الأكل في تلك الأيام التي هي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل.