حديثا الباب يظهر أن بينهما شيئاً من الاختلاف، فإن في حديث ابن عمر أن العبد يبقى مبعضاً، وفي حديث أبي هريرة أنه يستسعى.
وصورة حديث ابن عمر: إن كان العبد بين زيد وعمرو نصفين، فأعتق زيدٌ نصفه، وبقي نصف عمرو، فنقول لزيد: أنت أضررت بهذا العبد الذي جعلت نصفه حراً، ونصفه رقيقاً، ولأنك أنت السبب في ذلك فعليك أن تشتري النصف الباقي وتعتقه، وتعطي شريكك قيمة ذلك النصف، وأما قيمته فتعرض على أهل المعرفة، ويقال لهم: كم قيمة نصف هذا العبد؟ فيقومون قيمة عدل لا وكس ولا شطط، ولا زيادة ولا نقصان، فإذا قوم وعرف قدره قلنا لزيدٍ: عليك أن تدفع لعمرو نصف ثمن العبد حتى يعتق العبد، ويكون كله عتيقاً بسببك، وأنت الذي تحوز الأجر، وأنت الذي يكون لك ولاء هذا العبد؛ فإن الولاء لمن أعتق.
فإذا قال: أنا فقير وليس عندي ما أستطيع أن أشتري به النصف الثاني -سواء كان الباقي نصفاً أو أكثر من النصف أو أقل من النصف- فماذا نفعل بهذا العبد الذي أصبح بعضه حراً وبعضه عبداً؟! في حديث ابن عمر أنه يبقى مبعضاً، وعلى هذا يخدم عند عمرو يوماً، ويخدم لنفسه يوماً، ويقال له: لك يوم تتكسب فيه وتنفق به على نفسك، ولك -يا عمرو- يوم يخدمك فيه، ويشتغل عندك، ويكون كسبه لك، والمبعض مذكورٌ في كتب الفقه كثيراً، وكيف يُعامل، وكيف يُعمل معه.
هذا هو مقتضى حديث ابن عمر أنه يبقى مبعضاً، يشتغل عند هذا يوماً ويشتغل لنفسه يوماً، فإذا كان ما أعتق إلا ربعه، فيشتغل عند سيده ثلاثة أيام، واليوم الرابع يشتغل لنفسه، ويكون حر التصرف فيه، أو يتفقان على مدة، كأن يقول: تشتغل عندي شهراً، وتشتغل لنفسك ثلاثة أشهر، أو تشتغل عندي ثلاثة أشهر ولنفسك شهراً، أي: بقدر ما فيه من الحرية.
وذكروا ذلك حتى في المواريث، فقالوا: المبعض يرث ويُورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية، هذا ما يدل عليه حديث ابن عمر.
أما حديث أبي هريرة فذكر أنه يُستسعى العبد غير مشقوق عليه أي: إذا لم يستطع الذي أعتق نصفه أن يحرره فإنه يُستسعى، ومعنى يُستسعى يقال له: اكتسب لنفسك أعمالاً؛ واشتر نفسك بمنزلة المكاتب الذي يشتري نفسه من سيده بمالٍ مؤجلٍ، ثم يدفع كل شهرٍ أو كل سنة قسطاً حتى يحرر نفسه، ولعل هذا فيما إذا كان قادراً على أن يتكسب، ولا نلزمه بذلك، وهذا هو الجمع بينهما: أنه يستسعى إذا كان معه قدرة على التكسب حتى يخلص نفسه، فإذا لم يستطع التكسب فلا يجبر على الاستسعاء والتكسب، بل يبقى مبعضاً، والله أعلم.