للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢ – أما القرض، فلا خلاف بين العلماء في أن الأصل فيه – أي في حق المقرض – أنه قربة من القرب، لما فيه من إيصال النفع للمقترض وقضاء حاجته وتفريج كربته وإعانته على كسب قربة غالبًا، وأن حكمة من حيث ذاته الندب، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا، كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)) (١) . لكن قد يعرض له الوجوب أو الكراهية أو الحرمة أو الإباحة، بحسب ما يلازمه أو يفضي إليه، لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد.

وبناء على ذلك نص الفقهاء على أن المقترض إذا كان مضطرًّا إلى المال، كان إقراضه واجبًا، وإن علم المقرض أو غلب على ظنِّه أن المقترض ينفقه في معصية أو مكروه، كان حرامًا أو مكروهًا على حسب الحال. ولو اقترض تاجر لا لحاجة، بل ليزيد في تجارته طمعًا في الربح الذي يحصل له من ذلك، كان إقراضه مباحًا. ومثل ذلك ما لو أقرض غنيًّا لغرض الدافع ومصلحته، كحفظ ماله بإحرازه في ذمة المقترض الموسر، فإنه يكون مباحًا أيضًا، حيث إنه لم يشتمل على تنفيس كربة لمحتاج، ليكون مطلوبًا شرعيًّا (٢) .

٣ – أمَّا في حق المقترض، فالأصل في حكمه الإباحة، وذلك لمن علم من نفسه الوفاء، بأن كان له مال مرتجى، وعزم على الوفاء منه، وإلَّا لم يجز، وكان آثمًا في التدليس لإخفاء حاله على مقترضه، ما لم يكن مضطرًّا – فإن كان كذلك وجب في حقِّه لدفع الضرر عن نفسه – أو كان المقترض عالمًا بعدم قدرته على الوفاء وأعطاه مع ذلك، فلا يحرم عليه حينئذ الاقتراض، لأن المنع إنما كان لحق المقترض، وقد أسقط حقه مع علمه بحاله (٣) . قال ابن حجر الهيتمي في " الإنافة ": فعلم أنه لا يحلُّ لفقير إظهار الغني عند الاقتراض، لأن فيه تغريرًا لمقرض " (٤) وقال في " تحفة المحتاج ": " ومن ثم لو علم المقترض أنه إنما يقرضه لنحو صلاحه، وهو باطنًا بخلاف ذلك، حرُم عليه الاقتراض أيضًا، كما هو ظاهر " (٥) . بل إنه عدَّ في كتابه "الزواجر" الاستدانة مع نيَّة عدم الوفاء أو مع عدم رجائه، بأن لم يضطر، ولا كان له جهة ظاهرة يفي منها، والدائن جاهل بحاله: من الكبائر (٦) . لما روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) . والطبراني عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من ادَّان دينًا، وهو ينوي أن يُؤدِّيَه فمات، أدَّاهُ اللهُ عنه يوم القيامةِ, ومن استدان دينًا وهو ينوي ألَّا يُؤدِّيَه فمات, قال الله عزَّ وجلَّ له يومَ القيامةِ: ظننتَ أنِّي لا آخذ لعبدي بحقِّهِ؟ فيؤخذُ من حسناته فتجعل في حسنات الآخر، فإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات الآخر، فتجعل عليه)) .

هذا، وقد اختلف الفقهاء فيمن يرغب في النكاح ولا مالَ له: هل يستحب له أن يقترض ويتزوج؟ فقال بعضهم: يستحب له ذلك، لكونه وسيلة لتحقيق مطلوب شرعي، وهو النكاح وقال. وقال غيرهم: لا يستحب له ذلك (٧) ، لقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: ٣٣] .


(١) أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد. (انظر صحيح مسلم: ٤/٢٠٧٤؛ وعارضة الأحوذي: ٦/١٩٩؛ وسنن ابن ماجه: ١/٨٢؛ ومسند أحمد: ٢/٢٥٢، ٢٩٦، ٥٠٠) .
(٢) المغني، لابن قدامة: ٦/٤٢٩؛ وأسنى المطالب: ٢/١٤٠؛ ونهاية المحتاج: ٤/٢١٥؛ وروضة الطالبين: ٤/٣٢؛ والزرقاني على خليل: ٥/٢٢٦؛ والبهجة شرح التحفة:٢/٢٨٧ ومواهب الجليل: ٤/٥٤٥.
(٣) تحقه المحتاج وحواشيه: ٥/٣٦؛ وعارضة الأحوذي: ٦/٤٧؛ وكشاف القناع: ٣/٢٩٩؛ والمغني: ٦/٤٢٩.
(٤) الإنافة في الصدق والضيافة، لابن حجر الهيتمي: ص ١٥٥.
(٥) تحفة المحتاج: ٥/٣٧.
(٦) الزواجر عن اقتراف الكبائر: ١/٢٤٧.
(٧) مجموعة فتاوى ابن تيمية: ٣٢/٦؛ ومختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية: ص ٤٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>