للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٨ – هذا، وقد اتجه بعض الباحثين إلى القول بمشروعية خصم الكمبيالات (حسم الإسناد) تخريجًا على قول الفقهاء المبيحين لحط بعض الدين المؤجل عن المدين نظير تعجيله وقياسًا على قوله صلى الله عليه وسلم: ((ضعوا وتعجلوا)) . غير أن هذا الاتجاه غير مقبول شرعًا في نظري لأربعة وجوه:

(أحدها) أننا لو أخذنا عملية خصم الكمبيالات على ظاهرها بحسب الشكل الذي أفرغت فيه لوجدناها من قبيل بيع الدين لغير من عليه الدين، حيث يبيع صاحب الكمبيالة (الدائن) دينه المؤجل المسطور فيها لغير المدين بثمن معجل من جنسه، وبيع الدين لغير من عليه الدين جائز شرعًا إذا انتفى فيه الغرر والربا، غير أن الربا ليس بمنتف ههنا، بل هو متحقق، لأن العوضين من النقود، وقد باع الدائن نقدًا آجلًا بنقد عاجل أقل منه، فانطوى بيعه هذا على ربا الفضل وربا النساء (١) .

(والثاني) أننا لو نظرنا إلى عملية خصم الكمبيالات بحسب المقصود والغاية منها، لوجدناها أحد أمرين:

(أ) إما إقراض مبلغ وأخذ المقرض حوالة من المقترض بمبلغ أكثر منه يستوفى بعد مدة معينة. وهو ربا صريح لا مجال للتأويل فيه؛ لأن الحوالة يشترط فيها تساوي الدينين: المحال به والمحال عليه. وهنا تحقق بين مبلغ القرض والمبلغ المستوفى فيما بعد زيادة في مقابل الأجل، وهو من ربا النسيئة (٢) .

(ب) أو قرض مضمون بالورقة التجارية المظهرة لأمر المصرف تظهيرًا تامًا، إذ المصرف لم يقصد أن يكون مشتريًا للحق الثابت في الورقة، ولا أن يكون محالًا به، وإنما قصد الإقراض، فقبل انتقال ملكية الورقة المخصومة إليه على سبيل الضمان، فإذا حل وقت استحقاقها ولم يدفع أي من الملتزمين قيمتها، فإن المصرف يعود على الخاصم بالقيمة، دون أن يرغب أو يكلف نفسه بعبء ملاحقة الملتزمين حتى نهاية المطاف، كما هو الحاصل عمليًا (٣) .

(والثالث) أن حديث ((ضعوا وتعجلوا)) تضمن مشروعية حط الدائن لمدينه بعض الدين المؤجل نظير تعجيله على أساس أنه نوع من الصلح في الديون بين الدائن والمدين فحسب، ولذلك صنف الفقهاء مسألة ضع وتعجل تحت عنوان " صلح الإسقاط " أو " صلح الإبراء " أو " صلح الحطيطة " باعتبار أن القصد منه إسقاط الدين عن المدين وإبراء ذمته، خلافًا لربا النسيئة الذي يتضمن إنشاء الدين وشغل الذمة، والفرق بينهما كما ذكر ابن القيم (أن مقابلة الأجل بالزيادة في الربا ذريعة إلى أعظم الضرر، وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفًا مؤلفة، فتشتغل الذمة بغير فائدة، وفي الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين، وينتفع ذاك بالتعجيل له، والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون، وسمَّى الغريم المدين أسيرًا، ففي براءة ذمته تخليص له من الأسر، وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر) (٤) .

(والرابع) إن حديث الوضع والتعجل تضمن مشروعية الصورة التي ورد فيها على أساس أن تكون العلاقة في هذه العملية ثنائية بين الدائن والمدين، إذ لا يتصور صلح الحطيطة أو صلح الإسقاط في علاقة ثلاثية – كما هو الحال في خصم الكمبيالات – حيث يدخل طرف ثالث ممول يقدم قرضًا بزيادة مقابل الأجل بشكل صريح أو ضمني.


(١) انظر: المصارف معاملاتها وودائعها وفوائدها للأستاذ المحقق مصطفى الزرقا: ص١٠.
(٢) انظر: المصارف معاملاتها وودائعها وفوائدها للأستاذ المحقق مصطفى الزرقا: ص ١٠.
(٣) انظر: تطوير الأعمال المصرفية للدكتور سامي حمود: ص ٢٨٤.
(٤) إغاثة اللهفان: ٢/١٣؛ وانظر إعلام الموقعين: ٣/٣٧١.

<<  <  ج: ص:  >  >>