للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

زيادة الثمن من أجل التأجيل:

ومن هنا ينشأ السؤال: هل يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن الحال؟ وقد تكلم الفقهاء في هذه المسألة قديمًا وحديثًا، فذهب بعض العلماء إلى عدم جوازه، لكون الزيادة عوضًا من الأجل، وهو الربا، أو فيه مشابهة للربا، وهذا مذهب مرويٌّ عن زين العابدين عليِّ بن الحسين، والناصر والمنصور بالله، والهادوية، كما نقل عنهم الشوكاني رحمه الله (١)

أما الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء والمحدثون، فقد أجازوا البيع المؤجل بأكثر من سعر النقد، بشرط أن يبت العاقدان بأنه بيع مؤجل بأجل معلوم، وبثمن متفق عيه عند العقد، فأما إذا قال البائع: أبيعك نقدًا بكذا ونسيئةً بكذا، وافتراقا على ذلك، دون أن يتفقا على تحديد واحد من السعرين، فإن مثل هذا البيع لا يجوز، ولكن إذا عين العاقدان أحد الشقين في مجلس العقد، فالبيع جائز.

يقول الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه: تحت حديث أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وقد فسر بعض أهل العلم قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: " أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإن فارقه على أحدهما، فلا بأس، إذا كانت العقدة على أحد منهما " (٢) .

وحاصل قول الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: أن علة النهي عن هذا البيع إنما هو تردد الثمن بين الحالتين، دون أن تتعين إحداهما عند العقد، وهذا يوجب الجهالة في الثمن، وليس سبب النهي زيادة الثمن من أجل التأجيل، فلو زالت مفسدة الجهالة بتعيين إحدى الحالتين فلا بأس بهذا البيع شرعًا.

وإن ما ذكره الإمام الترمذي رحمه الله، هو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء (٣) ، وهو الراجح بالدليل، لأنه ليس في القرآن والسنة ما يمنع جواز مثل هذا البيع، وإن تعريف الربا لا ينطبق على هذه الزيادة في الثمن، لأنه ليس قرضًا، ولا بيعًا للأموال الربوية بمثلها، وإنما هو بيع محض، وللبائع أن يبيع بضاعته بما شاء من ثمن، ولا يجب عليه أن يبيعها بسعر السوق دائما، وللتجار ملاحظ مختلفة في تعيين الأثمان وتقديرها فربما تختلف أثمان البضاعة الواحدة باختلاف الأحوال، ولا يمنع الشرع من أن يبيع المرء سلعته بثمن في حالة، وبثمن آخر في حالة أخرى.

وبالتالي: فإن من يبيع البضاعة بثمانية نقدًا، وبعشرة نسيئة، يجوز له الإجماع أن يبيعها بعشرة نقدًا، ما لم يكن فيه غش أو خداع، فلم لا يجوز له أم يبيعها بالعشرة نسيئة؟

وبما أن هذه المسألة متفق عليها فيما بين المذاهب الأربعة المتداولة، وبين أكثر الفقهاء والمحدثين، فلا نريد الإطالة في بيان دلائلها من الكتاب والسنة، بل نريد أن ننطلق في هذا البحث على أساس جواز هذا البيع، ونذكر بعض التفاصيل والمسائل المتفرعة على هذا الجواز.


(١) نيل الأوطار: ٥/١٧٢.
(٢) جامع الترمذي، كتاب البيوع، باب ١٨، حديث ١٣٣١: ٣/٥٣٣، طبع بيروت.
(٣) راجع المغني، لابن قدامة: ٤/١٧٧؛ والمبسوط، للسرخسي: ١٣/٨؛ والدسوقي على الشرح الكبير: ٣/٥٨؛ ومغني المحتاج للشربيني: ٢/٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>