وعلى أساس هذه الفوارق الأربعة يقول هؤلاء العلماء المعاصرون: إن هذا التعويض لا علاقة له بالفوائد الربوية، ويستدلون على جواز مثل هذا التعويض بقوله صلى الله عليه وسلم:((لا ضرر ولا ضرار)) (١) وبقوله صلى الله عليه وسلم: " لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه " قائلين بأن هذا التعويض عقوبة مالية يعاقب بها المماطل.
وإن هذا الرأي المعاصر في جواز التعويض فيه نظر من وجوه مختلفة، بعضها نظرية وبعضها عملية.
أما من الجهة النظرية، فإن مشكلة المماطلة ليست مشكلة جديدة قد حدثت اليوم، وإنما هي مشكلة لم يزل التجار يواجهونها في كل عصر ومصر، وكانت المشكلة موجودة في عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم وفي العصور اللاحقة، ولكنه لا يوجد في شيء من الأحاديث أو الآثار ما يدل على أن هذه المشكلة قد التمس حلها بفرض التعويض على المماطل، ولم أجد في الفقهاء والمحدثين طوال أربعة عشر قرنًا من حكم أو أفتى بفرض مثل هذا التعويض، بل وجدت ما يخالفه كما سأذكره إن شاء الله تعالى.
أما الاستدلال بحديث:((لا ضرر ولا ضرار)) فلا شك أن إضرار الغير حرام بهذا النص، وكذلك يدل هذا النص على إزالة الضرر بطريق مشروع، ولكن لا يجب أن يزال كل ضرر بالتعويض المالي، ولا يدل النص صراحة أو إشارة، على أن إزالة ضرر المطل يكون بالتعويض. ولو كان هذا النص يدل على أن ضرر المماطل يزال بفرض المال عليه، لكان ذلك واجبًا، ولوجب على كل قاض أن يقضي بذلك، وعلى مفتٍ أن يفتي به، ولكنه لا يوجد في التاريخ قاض أو مفت حكم أو أفتى بذلك، مع كثرة قضايا المطل في كل عصر ومصر.
ثم إن ضرر الدائن المعترف به شرعًا، هو أنه لم يدفع إليه مبلغ الدين في وقته الموعود، وإزالة هذا الضرر أن يسلم إليه ذلك المبلغ الذي هو حقه، وليس من حقه المشروع ما يزيد على مبلغ الدين، فإنه ربًا. ولما ثبت أن الزائد من الدين ليس من حقه، ففوات هذه الزيادة ليس ضررًا معتبرًا عند الشرع، فلا يزال ضرره إلا بقدر حقه.
(١) الحديث أخرجه مالك والشافعي مرسلًا، وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني بطريق فيه جابر الجعفي، وابن أبي شيبة من وجه آخر أقوى منه، والدارقطني من وجه ثالث، وراجع المقاصد الحسنة للسخاوي ص ٤٦، وحسنه النووي، والمناوي في فيض القدير ٦/٤٣٢، لتعدد طرقه.