وتتضح في هذه الرواية الثانية عن أبي يوسف رحمه الله قوة الحجة ونصاعتها.
لكن أهل الترجيح في المذهب الحنفي وفي طليعتهم الإمام الكاساني رجحوا رأي أبي حنيفة في أن للمستصنع خيار الرؤية ولو جاء الصانع بالمصنوع موافقًا للأوصاف المطلوبة، عللوا ترجيحه بما لا ينهض حجة أمام رأي أبي يوسف.
لكن جمعية المجلة عندما وضعت نصوصها لاحظت أن رأي أبي حنيفة رحمه الله أصبح مشكلًا جدًّا بعد أن أصبح الاستصناع واسع النطاق إلى درجة لا حد لها بعد تطور الصناعة، وأصبحت البواخر والقطارات وأمثالها تستصنع استصناعًا. لذلك بينت جمعية المجلة في مقدمتها (التي نقلنا نصها أوائل هذا البحث) أنها وضعت المواد التي تكلمت عن الاستصناع في بابه المخصوص على أساس قول أبي يوسف في عدم الخيار للمستصنع إذا جاء المصنوع موافقًا للأوصاف المشروطة، تمشيًا مع الحاجة والمصلحة الزمنية.
لكن يلحظ في هذا المقام إن نص المادة: ٣٩٢ من المجلة جاء بالصيغة التالية:
" إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع عنه. وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة كان المستصنع مخيرًا ".
وواضح من هذا أن جمعية المجلة اعتبرت أن الاستصناع إذا انعقد صحيحًا كان لازمًا منذ انعقاده، ملزمًا للطرفين دون خيار لأحدهما منذ البداية ولو قبل كان لازمًا منذ انعقاده، ملزمًا للطرفين دون خيار لأحدهما منذ البداية ولو قبل البدء بالصنع، كما لو كان بيعًا مطلقًا لسلعة موجودة معينة. وهذا توسع عن رأي أبي يوسف المنقول في كتب المذهب، حيث يتفق رأيه مع أبي حنيفة إمام المذهب في أنه قبل الصنع عقد غير لازم، فلكل من الطرفين الرجوع عنه، وأبو يوسف إنما انفرد بعد ذلك بالقول بعدم الخيار لأحد منهما بعد الصنع إذا أتى به الصانع موافقًا للأوصاف المبينة، فالصانع ملزم عندئذ بتسليمه، والمستصنع ملزم بقبوله.
ومعني هذا أن ما قررته المجلة بهذا الإطلاق في لزوم عقد الاستصناع على الطرفين منذ انعقاده حتى قبل بدء الصانع بالصنع ليس له سند في المذهب المستمد منه.