ومعلوم أن المجلة هي قانون مدني بالمعني الاصطلاحي مستمد كله من مذهب معين هو المذهب الحنفي، وصدرت بإرادة سنية رسمية من الخليفة صاحب السلطان، نظير ما يسمى اليوم بقانون الإصدار الذي تصدر به سائر القوانين فتصبح به نافذة منذ نشرها بحسب نصوصها دون نظر إلى مصادرها.
وهنا تثور نقطة مهمة عند علماء القانون الوضعي، أنه إذا ذكر في المذكرة الإيضاحية المرافقة للقانون إن مادة معينة من مواده قد أخذ فيها واضع القانون برأي أو نظرية مما عرض في المذكرة الإيضاحية ولكن جاء نص تلك المادة القانون الصادر مخالفًا من ناحية ما لذلك الرأي أو النظرية التي قالت المذكرة الإيضاحية أنها أخذت بها، فهل العبرة في هذه الحال لما في المذكرة الإيضاحية، أو لنص المادة التي جاءت مخالفة؟
المقرر في هذه الحالة عند علماء القانون الوضعي أن العبرة لنص المادة، لأنها هي النص المقنن وليس المذكرة الإيضاحية، لاحتمال أن المشرع القانوني قد عدل أخيرًا عن اختياره الأول. ولهذا المبدأ شواهد واقعية عديدة معروفة في التقنينات الوضعية لا محل لذكرها هنا.
فبناء على هذا المبدأ تكون العبرة في المادة: ٣٩٢ من المجلة لإطلاق اللزوم في عقد الاستصناع منذ انعقاده، ولو أن أبا يوسف – الذي قالت مقدمة المجلة (وهي مذكرة إيضاحية مرافقة) أنها قد أخذت بقوله – لم يقل بهذا الإطلاق في لزوم العقد منذ انعقاده وإنما يقول به بعد أن يجيء الصانع بالمصنوع موافقًا للأوصاف المتفق عليها.
وصنيع المجلة بهذا الإطلاق في اللزوم يبرره أن واضعي المجلة، وهم من خيرة فقهاء عصرهم في القرن الثالث عشر الهجري قد لحظوا تطور الصناعة العظيم في ذلك الوقت، وتطور نطاق الاستصناع واتساع دائرته كما أشاروا إليه، فرأوا أن المصلحة الزمنية والاقتصادية والتعاقدية تقتضيه ولو لم يقل به الفقهاء السابقون في المذهب، إذ لو شاهدوا التطور الذي وصل إليه الاستصناع، والمداخل التي دخلها في حاجات الناس وتعاملهم، والضرر العظيم المهول الذي يلحق الصانع إذا رفض المستصنع المصنوع الذي صنع وأتى موافقًا لشروطه بحجة خيار الرؤية فيما لو كان المصنوع باخرة كبرى، أو معمل نسيج آلي عالي الكفاءة، أو قطار سكة حديدية. ونحو ذلك – نقول لو شاهدوا ذلك في العصر الحديث لما ترددوا في تقرير عدم خيار الرؤية، واعتبار عقد الاستصناع ملزمًا لطرفيه منذ انعقاده.