هذا في عصر المجلة قبل قرن وربع. فاليوم بعد أن أصبح نقل العملات النقدية وحساباتها من المشارق إلى المغارب يتم بفلكة زر، وأصبحت الصفقات الضخمة التجارية والصناعية تعقد على الملايين، وأصبح التاجر والمستصنع والصانع بالوسائل الآلية الهائلة يبني حساباته وحقوقه والتزاماته في ما لديه وما عليه وما إليه على توقيت زمني دقيق بحيث لو اختلت معه حلقة من ذلك لجرت سلسلة من المشكلات في ارتباطاته المتداخلة والمتشابكة – نقول في ظروف كهذه اليوم يجب أن يطمئن كل متعامل ومتعاقد إلى أن ما تعاقد عليه قد ثبت ويستطيع أن يبني عليه. وهذا يدعم أيضًا إن المصلحة العملية في استقرار المعاملات تقتضي اليوم اعتبار عقد الاستصناع لازمًا بحق الطرفين منذ انعقاده، إذ أن الاستصناع لم يبق محصورًا في الحاجات الشخصية البسيطة كالخف وإناء نحاسي وبساط، وسرج فرس، وثوب ولد أو حذائه، حتى يكون ضرر الصانع صاحب المهنة من عدول المستصنع أو رفضه المصنوع ضررًا خفيفًا، بل أصبح العدول من أحد الطرفين بعد التعاقد، كرفض المصنوع الموافق للأوصاف بحكم خيار الرؤية دون عيب أو مخالفة وصف، قد يترتب عليه أضرار جسيمة عظيمة للطرف الآخر مما يزعزع مبدأ استقرار المعاملات الذي هو من أهداف الفقه الإسلامي والقانون الوضعي معًا.
محل عقد الاستصناع:
المراد بمحل عقد الاستصناع ما يسميه فقهاؤنا بالمعقود عليه، فما هو هذا المحل المعقود عليه في عقد الاستصناع؟
من المعلوم – كما في تعريف الاستصناع – أنه ينصب على شراء شيء في الحال مما يصنع صنعًا لكي يصنعه البائع المحترف لمشتريه بأوصاف معينة وثمن محدد. وكل مصنوع يحتاج إلى مادة وعمل. فهل المبيع في هذا العقد هو العين المصنوعة أيًّا كان صانعها، أو العمل من الصانع البائع نفسه؟ هذه نقطة اختلف فيها أيضًا فقهاء الحنفية، وتترتب عليها نتيجة ألمحنا إليها في تحليل تعريف الاستصناع. وبما أن لها تأثيرًا مهمًّا في المحور الثاني من هذا البحث (مدى أهمية الاستصناع في الاستثمارات الإسلامية المعاصرة) ، فسنتكلم عنها وعن أثرها في المحور الثاني التالي: