للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثالث: إن الذين قالوا: إنه مواعدة – وهم قلة – رد عليهم عامة فقهاء الحنفية فقالوا: إن الاستصناع يختلف عن المواعدة في كثير من الأمور منها أن محمدًا (صاحب أبي حنيفة) ذكر في جوازه القياس والاستحسان، وذلك لا يكون في إثبات العدات ومنها: أنه أثبت فيه خيار الرؤية، وهذا أيضا يختص بالبياعات، ومنها أنه يجري فيه التقاضي، وإنما يتقاضى في الواجب، لا الموعود، ومنها أن الاستصناع خاص بما تجري فيه الصنعة والمواعدة تجوز في كل شيء، وقد ذكرنا رد المحيط البرهاني على هذا القول (١) .

رابعا ً: أن الذين أدخلوا الاستصناع في السلم (وحينئذ تشترط فيه شروطه) فهؤلاء في الواقع لا يعترفون به أبدًا، وإنما الاعتراف بالسلم وأنواعه، وحينئذ يرد عليهم بالأدلة الدالة على مشروعية الاستصناع من السنة والاستحسان، إضافة إلى فروق جوهرية بينهما، فالمعقود عليه في السلم هو الشيء المبيع في الذمة، أما في الاستصناع فهو العين والعمل – كما سبق -.

خامسا: إن القائلين بأن الاستصناع بيع اختلفوا في محل العقد بشكل يدل بوضوح على عدم وضوح فكرة البيع فيه، يقول الكاساني: (ثم اختلفت عباراتهم عن هذا النوع من البيع، قال بعضهم: هو عقد على المبيع في الذمة، وقال بعضهم: هو عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل، وجه القول الأول: أن الصانع لو أحضر عينا كان عملها قبل العقد ورضي به المستصنع لجاز، ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز، لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي، والصحيح هو القول الأخير، لأن الاستصناع: (طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعًا، فكان مأخذ الاسم دليلًا عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلمًا، وهذا العقد يسمى استصناعًا، واختلاف الأسامي دليل على اختلاف المعاني في الأصل، وأما إذ أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي به المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (٢) .

كل هذه الاختلافات تدل بوضوح على أن عقد الاستصناع له شبه ببعض العقود، ولكنه ليس هو ذلك العقد، وإنما هو عقد مستقل كما فصلنا ذلك آنفًا.


(١) المحيط البرهاني، مخطوطة مكتبة الأوقاف: ج ٢، ورقة ٥٧٥.
(٢) بدائع الصنائع: ٦/٢٦٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>