للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الترجيح:

وقبل أن نقوم بعملية الترجيح أرى من الضروري تحرير محل النزاع وإجراء نوع من التفصيل وتنقيح المناط.

وذلك لأن كثيرًا من المسائل المختلفة قد حشرت تحت لواء (الاستصناع) بحيث نرى أن كل مسألة في باب البيع، أو الإجارة، أو السلم فيها صنعة أو استصناع لغوي أدخلت في باب الاستصناع، ولذلك نرى من الضروري حصر الاستصناع في مفهومه الخاص بحيث لا يكون فيه خلط أو التباس بغيره، وكذلك ينبغى إبعاد المسائل – التي هي مندرجة أساسًا تحت عقد خاص – عن الاستصناع، ولذلك، فإذا صيغ عقد الاستصناع على أساس مواصفات السلم وتوفرت فيه شروطه، فإنه حينئذ سلم، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، ولذلك لو قال وهبتك هذا الثوب بعشرة دنانير بيعًا، وهكذا الأمر ههنا، فلو طلب شخص من آخر أن يصنع – بضم الياء – له مصنوع موصوف في الذمة ولم يحدد الشخص ولا الشيء المصنوع منه بعينه، فهذا سلم يجب فيه دفع الثمن في المجلس عند الجمهور أو خلال ثلاثة أيام عند المالكية، وحتى لو سمَّى استصناعًا فهو من الناحية اللغوية، وحينما يكون سلمًا يكون ملزمًا للطرفين، ويشترط فيه شروط السلم.

وكذلك الأمر حينما يكون المصنوع جاهزًا فيأتي به الصانع فيبيعه، أو يكون غائبا فيقع عليه العقد وحينئذ يكون بيعًا للغائب الذي لم يره فيكون له حق خيار الرؤية، وإذا كان قد باعه على الصفة فيكون له الخيار إذا تخلف المصنوع عن الصفات التي ذكرها.

وكذلك الحكم فيما لو صيغ العقد على أساس الإجارة، بأن يأتي شخص بكمية من الحديد، ويستأجر الصانع أن يصنع له منه سيفًا أو نحو ذلك، فهذا إجارة، ويصبح الصانع أجيرًا مشتركًا، ويشترط فيه شروط الإجارة، ويصبح ملزمًا للطرفين وكذلك الأمر حينما يصاغ على صورة الجعالة أو نحوها.

ولذلك يقول الكاساني: (وأما إذا أتي الصانع بعين صنعها قبل العقد ورضي به المستصنع فإنما جاز لا بالعقد الأول بل بعقد آخر، وهو التعاطي بتراضيهما (١) ، ويقول أيضا: (فإن سلم إلى حداد حديدًا ليعمل له إناء معلومًا بأجر معلوم أو جلدًا إلى خفاف ليعمل له خفًّا معلومًا بأجر معلوم فذلك جائز، ولا خيار فيه، لأن هذا ليس باستصناع، بل هو استئجار فكان جائزًا، فإن عمل كما أمر استحق الأجر، وإن فسد فله أن يضمنه حديدًا مثله، لأنه لما أفسده فكأنه أخذ حديدًا له واتخذ منه آنية من غير إذنه، والإناء للصانع، لأن المضمونات تملك بالضمان) (٢) .


(١) بدائع الصنائع: ٦/٢٦٧٧.
(٢) بدائع الصنائع: ٦/٢٦٨١

<<  <  ج: ص:  >  >>