وذلك لأن الحنفية قاسوا الاستصناع في بطلانه بموت الصانع على الإجارة، وهذا القياس يمكن الرد عليه بعدة وجوه:
أولا: إن بطلان الإجارة بموت المستأجر مسألة ليس متفقًا عليها، بل هي خلافية حيث ذهب مالك والشافعي، وأحمد، وإسحاق وأبو ثور، وابن المنذر إلى أن الإجارة لا تبطل بموت العاقدين، ولا بموت أحدهما (١) فالجمهور على خلاف ما ذهب إليه الحنفية، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة هذين الرأيين ولكن رأي الجمهور له أدلته التي تنهض حجة عليه) ومن هنا فما المانع من القول بعدم بطلان الاستصناع بموت العاقدين أو أحدهما، ولا سيما في وقتنا الحاضر الذي أصبحت للمصانع شخصية معنوية اعتبارية دائمة مستمرة ببقاء الشركة والمصنع، وأن الأشخاص بذواتهم ليس لهم أثر في شخصية الشركة – كما هو معروف -.
ثانيا: إن هذا القياس مع الفارق، وذلك لأن المعقود عليه في الإجارة هو العمل فقط، بينما المعقود عليه في الاستصناع هو العين والعمل معًا – كما سبق – وحتى الحنفية أثبتوا أحكامًا للاستصناع لا توجد للإجارة مثل خيار الرؤية، وعدم اللزوم ونحوهما.
٦- إن حق المستصنع لا يتعلق بشيء معين، وإنما المطلوب من الصانع هو الإتيان بالشيء المستصنع في زمنه المحدد له، ولذلك لو قام الصانع بصنعه قبل الأجل المحدد له، وباعه لآخر لا يضر ما دام قادرًا على الإتيان بمثله في الزمن المحدد في العقد، وذلك لأن عقد الاستصناع يقتضي أداء الشيء المستصنع في الزمن المحدد له، ولا يقتضي تحدد المصنوع بعينه وذاته، فذمة الصانع مشغولة بصنع الشيء المطلوب منه صنعه بمواصفاته في الوقت الذي اتفق عليه الطرفان، وبعبارة أخرى أن ما في الذمة لا يتعين حتى بالتعيين ولذلك حتى لو نوى بصنعه أن هذا الشيء يصنع لفلان، لا تمنعه هذه النية، من بيعه لآخر ما دام قادرًا على صنع مثله وتسليمه للمستصنع في الوقت المحدد له.
(١) يراجع القوانين الفقهية لابن جزي، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت: ص٢٧٦؛ وروضة الطالبين، للنووي، طبعة المكتب الإسلامي: ٥/٢٤٥؛ والمغني، لابن قدامة: ٥/٤٦٧- ٤٦٨.