* كان من آيات هذا التوجيه الرباني إلى العلم أن يتنوع العلم ويزكو، وينبعث من شجرته فروع كثيرة، بقدر ما كان استيعابها لأمة من الأمم بقدر ما كان تقدمها ورقيها، ومن هنا انطلق العالم في حرب شعواء لاكتساب ضروب العلم وتسخيرها لخدمة كل شعب ظفر من هذه الشجرة بما يحقق له علوا، ونصرا، وسيادة، وبات الناكص والخامل في هذا الدرب كسيف البال، عالة على أولئك المثابرين في رحابه والمتفانين في معرفة ضروبه ودروبه.
ولقد وجدنا فقهاء الأمة الإسلامية، يعكسون من أنوار التشريع الإسلامي ما يفتح الباب دائما، إلى نيل ضروب المعرفة، وتحصيل كل سبل العلم، مدرسة بعد مدرسة وفنا إثر فن، وصنعة إثر صنعة.
ما أغلقوا بابا فتحه الله، ولا ضيقوا طريقا وسعه الله على خلقه، بل كان همهم تطبيق شريعة الله تعالى، التي وسعت كل شيء بحكمة بالغة، وإعجاز معجز، استمر طيلة القرون، بل ويستمر – بمشيئة الله تعالى – إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولقد كان الفقه الإسلامي حريصا كل الحرص، وهو يوضح ويبين شريعة الله تعالى أن يبرز أحكام العقود والتصرفات التي تتم بين الناس – ما شرع منها وما لم يشرع، ما صح منها وما لم يصح – توجيها لمسيرة الناس إلى ما فيه خيرهم وتحقيقا لمصالحهم، وتحديدا لعلاقات الناس في معاملاتهم، منعا من الظلم والتظالم، ودفعا للشحناء، وإيضاحًا للآفاق التي من خلالها يرى كل إنسان ما يحقق له مصلحته فيسير فيه، وما يجلب له مضرة فيبتعد عنه.
ولقد كان للصناعة أثرها في الماضي والحاضر، وكان لها دورها في رقي الأمم ومكانتها في سد حاجات الناس المتجددة، ورغباتهم المتنامية تجدد الليل والنهار ونمو المسيرة الإنسانية عبر القرون والأزمان.
وكان دور الفقه الإسلامي أن يبين للناس – إذا ما أرادوا أن يصنع الإنسان لغيره شيئا – حقيقة العقد المنظم لهذه العلاقة – وهو الذي أطلق عليه بعض الفقهاء (الحنفية)" عقد الاستصناع " – ومشروعيته، وحكمه وآثاره، وعالجه فقهاء المذاهب (المالكية والشافعية والحنابلة) عن طريق عقد السلم.
ولما كان إبراز المنهج الذي عالج به كل مذهب (الاستصناع) أهميته البالغة، التي تظهر لنا بوضوح، إحاطتهم لهذه العقود بما يدرأ عنها المضرة لأي من المتعاقدين ويجلب لكل منهما ويحقق له المصلحة التي ابتغاها من وراء هذا العقد....