للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الثاني

مدى أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية

أدى الاستصناع في العُصُر الخوالي وظيفته في الحياة العملية، فأفاد كلا من الصانع والمستصنع والصنعة والفرد والجماعة، ثم تطورت الحياة الاجتماعية في العصور الحديثة فانتشر الاستصناع انتشارًا بين الناس واسعًا، فشمل صناعات متطورة ومهمة في حياة الناس اليوم، كالطائرات والسفن والسيارات والقطارات والمعامل، فأدى إلى تنشيط الحركة الصناعية وأسهم في سعادة الفرد والمجتمع.

والشيء الملفت للنظر ما وصل إليه الاستصناع في هذه الأيام من بناء المساكن الحديثة وغيرها من المباني والمؤسسات.

وإني أستطيع أن أضرب عددًا من الأمثلة على هذا الأثر ومداه في تنشيط الحركة الصناعية في العصور الحديثة، وذلكم في كل من عقد التوريد وعقد المقاولة، ثم في التمويل للمشاريع الكبرى، وبيع الدور السكنية على الخريطة.

١- فأما عقد المقاولة؛ فهو عقد عرفه علماء القانون، وليس هو في الواقع عقد الاستصناع، ولا يجوز الخلط بينهما، ولو أن بينهما نسبًا ووليجة، لكن عقد المقاولة يمكن التصرف فيه ببعض التحوير الفقهي، فيصبح حينئذ عقد استصناع شرعيًّا لا غبار عليه، وهو يتم فيه عادة الاتفاق على مدة التسليم والإلزام بغرامة معينة عند التأخير، فالتغريم كما مر أمر جائز بالشرط المسمى بالشرط الجزائي الذي أقره الاجتهاد الحنبلي من الفقه الإسلامي كما مر آنفًا.

٢- وكذلك عقد التوريد؛ فهو غير عقد الاستصناع بل هو تعهد والتزام من إنسان يجلب أشياء لإنسان آخر أو لجهة أخرى، فهذا هو فحواه، ومع ذلك فإنه عقد يمكن أن يبتني على عقد الاستصناع بوجه من الوجوه.

٣- وكذلك التمويل للمشاريع الكبرى في هذا العصر يمكن أن يبتني على عقد الاستصناع في كثير من الوجوه، كل ذلك بشرط وضوح التعاقد في كل هذه الأمور مع بيان شروطه، وأوصافه بيانًا وافيًا كافيًا مزيلًا لكل جهالة مفضية إلى النزاع والخلاف، وذلك كتمويل المعامل الكبرى، والصناعات الثقيلة كالطائرات والسيارات وما شاكل ذلك.

٤- ومن التطبيقات الجديدة على عقد الاستصناع بيع الدور السكنية وما شاكلها على الخريطة، ضمن أوصاف محددة، فهذا الأمر لا يصح إلا بتخريجه على عقد الاستصناع، ويعد العقد صحيحًا إذا ذكرت في شروط العقد كل المواصفات التي تمنع الجهالة المفضية إلى النزاع وتزيلها، وأصبح اليوم من السهل الميسور بيان كل ذلك بشكل مكتوب واضح متفق عليه مع بيان تسديد الثمر وآماده، ومدة التسليم بشكل تقريبي مستعجل، مع توثيق ذلك كله (١) .


(١) قلت: ولقد انعقدت في الخرطوم العاصمة السودانية في تشرين الثاني عام ١٩٩١م ندوة دولية لشؤون الإسكان من المتخصصين بالاقتصاد المعاصر، وبحثت فيها الموضوعات المهمة من مسائل الإسكان ولا سيما على ضوء عقد الاستصناع وغيره من العقود الفقهية الصحيحة وخرج المشاركون بالندوة بتوصيات مهمة جدًّا في هذا المضمار، وكان لعقد الاستصناع دور بارز في هذه الندوة التي أسهمت بتطويره من الناحية الفنية، وكان كاتب السطور أحد المشاركين في هذه الندوة الدولية مع لفيف من الزملاء العلماء الأجلاء من شتى بلاد العالم الإسلامي.

<<  <  ج: ص:  >  >>