للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢- المعضلة الثانية، الشرط الجزائي في عقد الاستصناع:

كان الاجتهاد الحنفي الذي جاء بنظرية الفساد من الاجتهادات التي ضيقت من حرية سلطات الإرادة في الشروط العقدية، وإن كان يعد متوسطًا بالنسبة إلى غيره، فكان الشرط الذي لا يجوز اشتراطه في العقد يعد مفسدًا للعقد. ولما كانت هذه الشروط كثيرة أصبحت حوادث الفساد في العقود كثيرة كذلك (١) .

وفي أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوروبا، وتطورت أخيرًا أساليب العقود في التجارة الداخلية والصنائع، وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة كالحق المسمى بحق الابتكار أو الحق الأدنى، واحتاج أصحاب هذه الحقوق والامتيازات إلى بيعها أو التنازل عنها لغيرهم من القادرين على استثمارها. واتسع مجال عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء مع المعامل والمصانع، وكذا عقود التعهد بتقديم الأرزاق وغيرها إلى الهيئات الاعتبارية، مما سمي (عقود التوريد) وكل ذلك يعتمد المشارطات في شتى صورها، وازدادت قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية حتى أصبح تأخر أحد المتعاقدين، أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرًّا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما كان قبل، ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الملتزم بتنفيذ التزامه الأصلي، لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه، ولا يجبر ضرر التعطل أو الخسارة الذي يلحقه جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونًا منه أو امتناعًا.

وهذا قد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الآخر الذي يتأخر في تنفيذ التزامه في حينه، ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح علماء القانون الوضعي الحديث (الشرط الجزائي) وهو يتخرج على مذهب القاضي شريح في ضمان التعويض عن التعطل والانتظار، وقد أيد ذلك ابن القيم رحمه الله بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عون عن ابن سيرين أنه قال: (قال رجل لكريه: أرحل بركابك، فإن لم أرحل معك في يوم كذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح، (من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه) (٢) ، وابن شبرمة قال في حديث جابر بن عبد الله في قصة البعير (البيع جائز والشرط جائز) (٣) فهذا وأمثاله يدل دلالة قاطعة على أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود تعويضًا عن ضرر محقق هو شرط صحيح معتبر يضاف إليه ما لم يكن هنالك عذر شرعي في الإخلال بالالتزام به.

وقد تأيد ذلك بقرار هيئة كبار العلماء في السعودية سنة ١٣٩٤هـ.


(١) انظر المدخل الفقهي: ١/٧١٣، ف ٣٨٦ وما بعدها.
(٢) أعلام الموقعين، طبعة المنيرية: ٣/٣٣٩؛ والمدخل الفقهي، للأستاذ الجليل الزرقاء: ١/٣٤٣، وف ٣٨٦ وما بعدها، وانظر صحيح البخاري مع فتح الباري: ٥/٢٦٢.
(٣) أخرجه الطبراني في الأوسط.

<<  <  ج: ص:  >  >>