للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكم عقد الاستصناع عند الحنفية:

لقد كادت تجمع كلمة فقهاء الحنفية على جواز عقد الاستصناع ومشروعيته واعتمدوا في جواز هذا العقد على الاستحسان، قال صاحب الهداية: (١) : إذا استصنع شيئًا بغير أجل جاز، استحسانًا، للإجماع الثابت بالتعامل، وفي القياس لا يجوز، لأنه بيع المعدوم لا على وجه السلم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم خاصةً، وإلى هذا ذهب زفر.

وقال الكمال بن الهمام: ولكنا جوزناه (أي الاستصناع) استحسانًا، للتعامل الراجع إلى الإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكير، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، وقد استصنع رسول الله خاتما (٢)

وقال الكاساني (٣) : أما جوازه، فالقياس أن لا يجوز، لأنه بيع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السلم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السلم، ويجوز استحسانًا، لإجماع الناس على ذلك، لأنهم يعملون ذلك في سائر الأعصار من غير نكير، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، وقال: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح"، والقياس يترك بالإجماع ولهذا ترك القياس في دخول الحمام بالأجر من غير بيان المدة ومقدار الماء الذي يستعمل، وفي قطعة الشارب للسقاء من غير بيان قدر المشروب، وفي شراء البقل لأن الحاجة تدعو إليه. وقال الكمال ابن الهمام: واحتجم صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام، مع أن مقدار عمل الحجامة وعدد كرات وضع المحاجم ومصها غير لازم (٤) .

وقد قصر الحنفية تجويز بعض الأشياء على غير قياس على ما جرى فيه التعامل بين الناس وأقره المسلمون وقال السمرقندي (٥) : والقياس أنه لا يجوز، وفي الاستحسان جائز.

ولم يشذ من علماء الحنفية عن القول بجواز الاستصناع إلا زفر الذي لا يقول بالاستحسان، ولا يقدمه على القياس، ولهذا قال بعدم جواز بيع الاستصناع (٦) .

ووجه تقديم الاستحسان على القياس في الاستصناع، هو تعامل الناس بهذا العقد، وإجماعهم على ذلك منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى اعتبروه دليلًا من أدلة الشريعة، يقابل القياس الجلي الذي تسبق إليه الأفهام، وهو عدم جواز بيع المعدوم، ولذلك كان الاستحسان عند علماء الأصول من الحنفية والحنابلة قياسًا خفيًّا، رجح على القياس الجلي، للمصلحة.


(١) شيخ الإسلام برهان الدين: شرح بداية المبتدئ: ٣/٨٥
(٢) فتح القدير: ٥/٢٤٢
(٣) البدائع: ٥/٢
(٤) فتح القدير ٦/٢٤٢
(٥) تحفة الفقهاء: ٢/٥٢٨
(٦) فتح القدير: للكمال ابن الهمام: ٦/٢٤٢

<<  <  ج: ص:  >  >>