بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
في الحقيقة حينما تعرضت للكتابة عن عقد الاستصناع كان من الضروري أن أرى اتجاه الفقه الإسلامي لسد هذه الثغرة التي تحتاج إلى أن يلبي الناس حاجات بعضهم البعض مما يحتاج إلى تصنيع، ومن ثم عرضت البحث الموجود أمامكم على أساس أن أعرض رأي الحنفية ثم رأي المالكية ثم الشافعية ثم الحنابلة. الذي يجمع بين هذه المذاهب جميعا هو أشياء تصنع ويتم التعاقد عليها إما سلما وإما استصناعا، النقطة التي بدت بين الجميع خلافية، هل نطلق أو نوجد عقدا يسمى عقد الاستصناع له خصائصه؟ هذا ما اتجه إليه الحنفية وقد تكلم الإخوة عن هذه النقطة بإفاضة كما رأينا ولكن لي تعليق محدود حتى لا نطيل الكلام.
إن الموضوع هو التعاقد على شيء غير موجود، وأنه سيوجد بعد أن يصنع، وأن الثمن في عقد الاستصناع يصح أن يكون مقدما، ويصح أن يدفع البعض ويؤخر البعض كما حدده المذهب، فحينئذ موضوعه غير موجود، الثمن قد يتأخر بعضه أو كله، ومن ثم جاء الكلام حول مناقشة الأدلة التي يمكن أن نتخطى بها كونه معدوما وكون بعض الثمن قد يكون متأخرا، الحنفية عللوا لذلك بجانب الأدلة التي ذكروها من استصناع المنبر أو الخاتم أو ما إلى ذلك من الحمام ودخوله وعدم تحديد ما يستهلكه الإنسان فيه، بجانب ذلك قالو: إن التعامل بالاستصناع يرجع إلى الإجماع الفعلي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم من غير نكير، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم:((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) وقوله: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ". إلى هنا أخذنا من هذا أن هناك صناعات كانت تتم في هذا الوقت، وأنه اتفق على جوازها من هذا الكلام الذي ذكرناه، ومن ثم تابعت بعض المسائل الموجودة عند المالكية حتى أرى ما يمكن أن يكون دينا بدين، ووجدت صورة عند المالكية أتوا بها: وهي الشراء من شخص دائم العمل - يعني من لهم حرف - ويتقدم إنسان ليشتري منهم بعض ما عندهم على أن يأخذ في كل يوم جزءا ثم بعد ذلك يسدد في نهاية المدة، وهذه الصورة كما وردت بنصها أن الناس كانوا يبتاعون اللحم بسعر معلوم، يأخذ كل يوم شيئا معلوما، ويشرع في الأخذ ويتأخر الثمن إلى العطاء، ثم قال المالكية: إن كل ما يباع في الأسواق يأخذ حكم هذه الصورة، ولا يكون إلا بأمر معلوم، يسمي ما يأخذ كل يوم، وكان العطاء يومئذ مأمونا ولم يروه دينًا بدين، ثم قالوا: وإجارة ذلك مع تسمية الأرطال التي يأخذ منها كل يوم رطلين أو ثلاثة على الشرطين المذكورين، هو المشهور في المذهب، وهو قوله في هذه الرواية - مروي عن الإمام - (أنا أجيز ذلك استحسانا اتباعا لعمل أهل المدينة وإن كان القياس يخالفه) ، إذن كان هناك بعض البياعات التي تتم بهذه الصورة، فيها السلعة قد تكون غير موجودة حتى أنه يجوز التأخير عندهم في هذه الصورة، يتأخر الشروع إلى عشرة أيام ونحوها، يتم على شيء غير موجود وقت التعاقد، قد يكون ذلك، والثمن متأخر، وأجيزت هذه استحسانا اتباعا لعمل أهل المدينة.