وما أشار إليه ابن عاصم وامتطاه كثير من الفقهاء لتحليل هذا الصنف من العقود هو أمر يندر حدوثه ويعز وقوعه فالمتبايعان المتعاقدان كانا يرميان إلى نوع من رهن الانتفاع فيه مواصفات هذا العقد وفيه مواصفات أخرى تجعله كبيع عند انتهاء الأجل وعدم حصول التراجع بين الطرفين فلا يقع الالتجاء للحاكم لبيع المرهون وخلاص الدين.
وحينئذ فلا يمكن القول بانفصالهما واستقلالهما عن بعضهما بإرادتين واتفاقين وعقدين وكتبين. ولا يمكن أن يطمئن البائع صاحب الشيء للتفويت في متاعه بكتب صحيح له جميع مواصفات البيع القائم على أمل أن يقع بعد ذلك كتب أخر يمنحه حق الاسترجاع والتمتع بالثنيا فالمشتري قد يفوت عليه هذا الأمل فتضيع بضاعته وتخسر تجارته وتتحطم آماله.
ولا أحسب أن أحدًا الآن لا يضيق بهذه النظرية المبنية على الاحتيال ونكران الواقع هذا الواقع الذي يقتضي أن الاتفاق حاصل من أول الأمر على بيع الثنيا واستغلال ما فيه من منافع للطرفين بصرف النظر عن حليتها من حرمتها وأن الكتائب والإشهاد إنما تأتي للإثبات لا للإنشاء فلا يهم إطلاقًا جعل كتبين ينفرد أحدهما بالبيع ويخصص الآخر للتطوع بالثنيا.
وعلى كل فإن هذه الصورة حدوث التطوع بالثنيا بعد عقد البيع تبعدنا عن بيع الثنيا الذي يشترط فيه البائع في صلب العقد وفي بند من بنوده استرداد مبيعه حين يرد هو الثمن وهو العقد الذي يرى المالكية فساده وعدم جوازه.
وإذ كان المقصود من بيع الثنيا هو أن يسترد البائع العين بعد استغلاله لما قبضه من ثمن وأن يفوز المشتري بغلة المبيع مدة غيبة ماله عنه فهذا ظاهر في كون العملية إنما هي من باب الربا المحرم شرعًا لقوله سبحانه:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة: ٢٧٥] .
ومن ثمة فالمالكية يحرمون هذا العقد ويكشفون عنه غطاء الحيل التي يكسوه بها بعض المتأخرين لتسويغه وتحليله وهي حيل مكشوفة ظاهرة جلية لا ينكرها حتى أصحابها. يقول الحطاب (١) : (وأما ما يقع في عصرنا هذا وما عمت به البلوى وذلك أن الشخص يبيع الدار بألف دينار - مثلًا - وهي تساوي أربعة آلاف أو خمسة ويشترط على المشتري أنه متى جاء بالثمن ردها إليه ثم يؤاجرها المشتري لبائعها بمائة دينار في كل سنة قبل أن يقبضها المشتري وقبل أن يخليها البائع من أمتعته بل يستمر البائع على سكناها إن كانت له مسكنًا أو على وضع يده عليها أو إجارتها ويأخذ منه المشتري الأجرة المسماة في كل سنة. فهذا لا يجوز بلا خلاف لأنه صريح الربا ولا عبرة بالعقد الذي عقداه في الظاهر لأنه إنما حكم بالغلة للمشتري في البيع الفاسد لانتقال الضمان إليه.
(١) هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المعروف بالحطاب ولد سنة ٩٠٢هـ/ ١٤٩٧م، ومات ٩٥٤هـ/ ١٥٤٧م. فقيه مالكي له عدة كتب منها كتاب مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، مطبوع في ست مجلدات.