وذكر عبد الملك بن حبيب الأندلسي في كتابه الطب النبوي هذه النقطة فقال:(وإذا لم يكن معروفًا بالطب فهو ضامن لذلك في ماله ولا تحمل ذلك العاقلة، ولا قود عليه لأنه لم يتعمد قتله، وإنما أخطأ الذي طلب من مداواته بجهله ذلك. وعليه من السلطان العقوبة) . وهو كلام نفيس دقيق، فلا قود ولا يقتل قصاصًا بالعليل الذي مات، ولكن عليه الدية كاملة في ماله لا في مال العاقلة، وإن كانت الجناية دون النفس كانت العقوبة بقدرها. ولا يعفيه ذلك من تأديب الحاكم لأنه تعدى بممارسته مهنة الطب دون إذن.
قال ابن القيم:(والقسم الثالث: طبيب حاذق أُذن له، وأعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأت يده، وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه، مثل أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة. فهذا يضمن لأنها جناية خطأ. ثم إن كان الثلث فما زاد فهو على عاقلته، فإن لم يكن له عاقلة: فهل تكون الدين في ماله؟ أو في بيت المال؟ على قولين، هما روايتان لأحمد وقيل: إن كان الطبيب ذميًا ففي ماله، وإن كان مسلمًا ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيت المال، أو تعذر تحميله فهل تسقط الدية؟ أو تجب في مال الجاني؟ فيه وجهان: أشهرهما السقوط) .
وهو كلام دقيق لا يكاد يوجد به نظير لدى الأمم الأخرى. فهذا الطبيب المأذون له من جهة الشارع ومن جهة العليل، أعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأت يده (ويقرر ذلك لجنة من الأطباء المختصين في هذا الفرع) فأدى ذلك إلى تلف العضو أو النفس، فإن كانت الدية أقل من الثلث فإنها في مال الطبيب وإن كانت أكثر من الثلث ففي العاقلة. والعاقلة هي قبيلة الشخص (وهو داخل فيها) أو أهل ديوانه في العطاء.. فهل تكون اليوم ممثلة في نقابة الأطباء أو الهيئة الطبية التي ينتمي إليها الطبيب. ذلك أقرب إلى مفهوم العاقلة حيث جعلت العاقلة في الديوان ... ولم يعد اليوم للقبيلة وجود في كثير من المدن والبلاد.
وفي الغرب لا بد للطبيب من دفع التأمين لإحدى شركات التأمين الطبي وهو لا يستطيع أن يمارس المهنة ولا يؤذن له فيها إلا إذا دفع التأمين أولًا.. وتقوم شركة التأمين بدفع التعويض الذي تقرره المحكمة، وتكون الشركة بذلك في مقام العاقلة عندنا سواء كان المبلغ المقرر ثلث الدية أو اقل أو أكثر.
ويبدو أننا نحتاج اليوم في بلاد المسلمين عربًا وعجمًا لشيء مماثل لهذا أو قريب منه حيث اختفى مفهوم العاقلة من معظم البلاد.