للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النقطة الثانية:

الملاحظ: أن الفقهاء ـ على اختلاف مشاربهم ـ حاولوا أن يستنبطوا كثيرًا من الأحكام، على ضوء تقرير أو تعامل خاص قام به الرسول أو أحد القادة الإسلاميين، تجاه موقف معين، والحقيقة هي: أن هناك خطرًا يسميه المرحوم الإمام الصدر (خطر التجريد في دليل التقرير) ويتلخص في تجريد السلوك المعاصر لعهد التشريع عن خصائصه وقرائنه، واستنباط موقف إسلامي عام (مع أن من الضروري ـ لكي يكون الاستدلال بدليل التقرير موضوعيًّا ـ أن ندخل في حسابنا كل حالة من المحتمل تأثيرها في موقف الإسلام من ذلك السلوك، فحين تتغير بعض تلك الحالات والظروف يصبح الاستدلال بدليل التقرير عقيمًا، فإذا قيل لك مثلًا: إن شرب الفقاع في الإسلام جائز، بدليل أن فلانًا ـ حين مرض على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرب الفقاع، ولم ينه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك، كان لك أن تقول: إن دليل التقرير هذا ـ وحده ـ لا يكفي دليلًا على سماح الإسلام بشرب الفقاع لكل فرد، ولو كان سليمًا؛ لأن من الممكن أن تكون بعض الأمراض مجوزة لشربه بصورة استثنائية، فمن الخطأ أن نعزل السلوك المعاصر لعهد التشريع عن ظروفه وخصائصه" (١) .

والحقيقة أننا نستطيع أن نعبر بهذه الحقيقة: عن مجال دليل التقرير إلى مجال الأوامر الإدارية والعسكرية بكل وضوح، بل ربما أمكننا القول بأن العبور هنا أولى؛ باعتبار أن الأوامر الولائية موقتة تمامًا، يلاحظ فيها ولي الأمر المصلحة المطلوبة، اللهم إلا أن يصرح بقاعدة عامة يكنها أن تشكل قانونًا عامًا، وللبحث هذا تفاصيله.

ومن هنا نرى أن الكثير من الموارد التي استند إليها الفقهاء لا يمكنها أن تشكل بنفسها أدلة مقنعة، إلا أن هناك حقيقة أخرى هي: أننا نستطيع من خلال استقراء المواقف المتنوعة (حتى ولو كانت ولائية) ، أن نستنبط حكمًا يقينًا؛ أو ـ على الأقل ـ نكتشف (مورد إضاءة) وحكمًا يقدم إلى ولي الأمر ليلاحظه، ويأخذه بعين الاعتبار، في تعامله مع المواقف المشابهة.

فالأمر ـ إذن ـ يتوقف على تعدد الحالات ووضوحها، ليكشف لنا ـ يقينًا ـ عن موقف عام تتبناه الشريعة، بعد إلغاء الخصوصيات التي نطمئن بعدم دخلها في الموضوع.

والذي نريد أن نخلص إليه هو أننا نعتقد أن منطق التوازن بين النزعة الإنسانية والمصلحة العليا والروح السائدة التي يمكن أن نستنبطها من مجمل ما مر من نصوص وأحكام، وهي التي يجب أن يلحظها الإمام في تعامله مع المواقف المتنوعة، ومنها المواقف التي تنتجها الحرب.


(١) اقتصادنا: ٢/ ٣٧٤

<<  <  ج: ص:  >  >>