للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النقطة الثالثة:

إنه كثيرًا ما يبدو التزاحم بين النزعتين آنفتي الذكر، وحينئذ فالذي تشير إليه النصوص هو ترجيح النزعة الإنسانية مهما أمكن، إلا أن يتوجه خطر كبير للمصلحة العليا، وحينئذٍ فهي المقدمة.

فمن الأحكام المشهورة والمسلم بها، أن الأسير إذا عجز عن المشي ولم تكن هناك وسيلة لحمله أطلق سراحه؛ لأنه لا يعلم رأي الإمام فيه.

وقد روي عن الإمام علي بن الحسين السجاد قوله:

"وإذا أخذت أسيرًا فعجز عن المشي، ولم يك معك محمل، فأرسله ولا تقتله، فإنك لا تدري ما حكم الإمام فيه، والأسير إذا أسلم فقد حقن دمه وصار فيئًا " (١) .

وقد صرح به الكثير من الفقهاء؛ كالطوسي في (المبسوط) و (النهاية) ، والحلي في (السرائر) و (المختصر النافع) ، وابن قدامة في (المغني) (٢) .

والملاحظ هنا أن هناك تزاحمًا بين الجانب الإنساني (الرحمة) ، والجانب المصلحي (وهو الاحتفاظ بالأسير) ، بعد أن لم يمكن الجمع بينهما، وتم تغليب جانب الرحمة وإطلاق الأسير، وعلى هذا الغرار نلاحظ مسألة الامتناع عن قتل النساء، حتى ولو عاونَّ أزواجهن، إلا أننا نجد ـ في قبال ذلك ـ أحكامًا أخرى:

منها: أنه لا يقبل الاستئسار قبل أن تتم السيطرة الإسلامية على الموقف، خوفًا من تغير الموقف لصالح العدو.

ومنها: أنه لو تترس الكفار بالمسلمين الأسرى، أو حتى لو تترسوا بالنساء والأطفال، وتوقف الفتح النهائي ـ تمامًا ـ على اقتحام هذه العقبة، وجب الإقدام ـ مهما كانت النتائج ـ إذعانًا للمصلحة العليا:

ـ يقول الشيخ الطوسي في (النهاية) :

"ومتى استعصى على المسلمين موضع منهم؛ كان لهم أن يرموهم بالمناجيق، والنيران، وغير ذلك مما يكون فيه فتح لهم، وإن كان في جملتهم قوم من المسلمين النازلين عليهم، ومتى هلك المسلمون فيما بينهم، أو هلك لهم من أموالهم شيء لم يلزم المسلمين ولا غيرهم غرامتهم من الدية والأرش، وكان ضائعًا " (٣) .

ـ ويقول القاضي عبد الجبار بن البراج في (المهذب) :

"وإذا تترس المشركون بأسارى المسلمين، وكانت الحرب ملتحمة لم يقصد الأسرى بالرمي، فإن أصيب لم يكن على من رماه شيء، وإن لم تكن الحرب ملتحمة لا يجوز رميه، فإن رماه ـ ولم يقصده ـ فإن أصابه كان ذلك خطأ وعليه ديته" (٤) .

ـ ويقول ابن إدريس في (السرائر) :

"وإذا تترس المشركون بأطفالهم، فإن كان ذلك حال التحام القتال جاز رميهم، ولا يقصد الطفل، بل يقصد من خلفه؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لأدى إلى بطلان الجهاد، وكذلك الحكم إذا تترسوا بأسارى المسلمين، وكذلك إذا تترسوا بالنساء. . ." (٥) .

والملحوظ هنا تقديم المصلحة العليا على النزعة الإنسانية ولكن هذه نظرة ابتدائية.

ذلك أن المصلحة العليا للمسلمين هي مصلحة الإنسانية جمعاء ـ كما يراها الإسلام ـ وإن الإسلام هو صوت العدالة الإنسانية كلها، وبه يمكن إنقاذها من براثين الوثنية، والضياع، والكفر. فكل عمل لصالح الإسلام هو لصالح الإنسانية ـ في الحقيقة ـ فلا يمكن التفريط بهذه المصلحة الإنسانية العليا لصالح رحمة موقتة.


(١) الكافي: ٥/ ٣٥؛ وتهذيب الأحكام: ٦/ ١٥٣
(٢) التذكرة: ١/ ٤٢٥، والمغني: ١٠/ ٢٩٩، وغيرهما
(٣) الينابيع الفقهية: ص:٥١
(٤) ن. م: ص ٩٠
(٥) الينابيع الفقهية: ص ١٦٨

<<  <  ج: ص:  >  >>