للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والآيات المطلِقة في القتال تحمل على المقيِّدة له وهو القتال في حال الاعتداء أو إزالة العقبات في وجه دعوة الإسلام (١) . كما يدل لذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (٢) .

يقول الدكتور محمد البهي: "ولأن جماعة المسلمين جماعة مستقلة، في هدفها وغايتها وفي منهجها في الحياة، وفي ترابط أفرادها بعضهم ببعض؛ ولأنه مطلوب منها أن تحرص على استقلالها، برد العدوان عليها، وعدم التهاون في ذلك ـ كان من المترقب لهذه الجماعة أن يحتك بها غيرها من الجماعات الإنسانية التي تطمع في التوسع، أو تتعصب لفكرتها، ومبدأها في الحياة، لذلك طلب الإسلام من " الجماعة الإسلامية " أن تكون دائما على حذر، واستعداد مادي وروحي معًا، لمقاومة من يحتك بها، قاصدًا إضعافها وإذهاب استقلالها، ولكن هذه التعبئة المادية والروحية التي يطلبها الإسلام من المؤمنين به يضعها دائمًا في خدمة السلام لا للغزو والاعتداء". (٣)

ويقول أصحاب هذا الرأي: إن آية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (٤) ، لم تنسخها آية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (٥) ، لاتفاق جمهور العلماء على إحكام هذه الآية، فقد حكى ابن تيمية اتفاق العلماء على أن آية الإكراه ليست منسوخة، ولا منصوصة وإنما النص عام فلا تكره أحدًا على الدين، والقتال لمن حاربنا". (٦) .

يقول الإمام الرازي في تفسيره الكبير بعد أن ذكر أن الله تعالى بين دلائل التوحيد بيانًا شافيًا قاطعًا للمعذرة: "إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل عذر للكافر في الإقامة على كفره إلا أن يُقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء؛ إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان، ونظير هذا قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (٧) .

وقال في سورة أخرى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (٨) .

وقال في سورة الشعراء: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (٩) .

ويستشهدون للسلم بالحديث الذي ذكرناه في أول البحث وهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلما بعث بعثًا أو أرسل سرية قال: ((تألفوا الناس، وتأنوا بهم، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت من مدر ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم)) (١٠) .


(١) العلاقات الدولية في الإسلام، للدكتور وهبة الزحيلي: ص ٩٦
(٢) سورة الأنفال: الآيتان ٦٠، ٦١
(٣) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ص ٢٣٥
(٤) سورة البقرة: الآية ٢٥٦
(٥) سورة التوبة: الآية ٧٣
(٦) رسالة القتال في مجموعة رسائل ابن تيمية: ص ١٢٣
(٧) سورة الكهف: الآية ٢٩
(٨) سورة يونس: الآية ٩٩
(٩) سورة الشعراء: الآيتان ٣، ٤. تفسير الرازي: ٢/ ٣١٩، ويؤكد هذا المعنى ابن كثير في تفسيره: ٣/ ٣٣١. وانظر: كذلك النظم الإسلامية، للدكتور صبحي الصالح: ص ٥١٨، وعنه نقلت نص الرازي.
(١٠) شرح السير الكبير: ١/ ٥٩

<<  <  ج: ص:  >  >>