للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويرى فقهاء آخرون أن الأصل في العلاقات الدولية هو السلم وأنه لا يُجنح للحرب إلا في حالة الضرورة والدفاع عن النفس وحماية الدولة والنظام، وأنه لا يبيح للمسلمين قتال مخالفيهم في الدين وإنما يسمح بقتالهم، إذا اعتدوا على المسلمين فحينئذٍ يصبح الجهاد فرض عين دفعًا للعدوان، وكذلك إذا وقفوا في وجه الدعوة الإسلامية وحالوا دون نشرها وإقناع الناس , واعتبروا أن حالة السلم تجعل موضوع التعاون وتبادل المنافع والمصالح والتجارة مع الدول الأخرى قائمًا، واحتجوا بالنصوص من القرآن والسنة، ومعظمها يبين السبب الذي من أجله فرض القتال، إما لدفع ظلم، أو لحماية الدعوة وقطع الفتنة، لا سيما وأن الكفار في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشركون وأهل كتاب ـ أمعنوا في إيذاء المسلمين بألوان من العذاب، وقاطعوهم وأخرجوهم من ديارهم وصادروا ممتلكاتهم، وغايتهم إخماد الدعوة ومنع انتشارها وإقامة دولتها (١) .

قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (٢) .

وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (٣) .

وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (٤) .

وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (٥) .

ويقول عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (٦) .

ويقول تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} (٧) .

ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (٨) .

ويقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (٩) .

ويقول: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (١٠) .

ويفهم من هذه الآيات جميعًا ما ذهب إليه أصحاب الرأي بأن السلم هو الأصل في العلاقات الدولية بأن آيات القتال منسجمة مع هذا الأصل، فقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} متصل بقوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فنحن نقاتلهم كما يقاتلوننا فإن كفوا عن قتالنا كافة، كففنا عن قتالهم بالمقابل، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ} الآية، وهذا أمر بقتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... إلخ" فمن لم يؤمن برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يكون له إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاءوا به، وإنما يتبعون أهواءهم وآراءهم (١١) . وهذا لا يتنافى مع أصل السلم؛ لأن قتالهم هو قتال من أجل تحقيق السلم وتوحيد الناس وجعلهم مع المسلمين أمة واحدة، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ومعناها في قوله: حتى يدفعوا الجزية "أي مقابل الزكاة" إذا لم يسلموا ويخضعوا لأحكام الإسلام (١٢) . وهذا ينسحب على بقية الآيات التي تأمر بالقتال، فالقتال لمنع الفتنة، والقتال لدعوة الإيمان، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحماية الدعوة لا يتنافى مع أصل السلم في العلاقات الدولية، فإذا أقروا بذلك كانوا مسلمين، وإلا كانوا أهل ذمة أو معاهدين، وهذا استقرار وسلام، والذمة بمعنى العهد والأمان فتشمل المواطنين الذين يقيمون مع المسلمين في سلام في بلاد المسلمين، وتشمل المستأمنين، وهم أصحاب الأمان المؤقت الذي يعطي للحربيين لكي يتمكنوا من الدخول إلى دار الإسلام لتجارة أو زيادة أو أي حاجة مشروعة، وذلك بشروط خاصة (١٣) .


(١) السياسة الشرعية، لعبد الوهاب خلاف: ص ٧٠
(٢) سورة الحج: الآيتان: ٣٩، ٤٠
(٣) سورة الأنفال: الآية ٣٩
(٤) سورة البقرة: الآية ١٩٠
(٥) سورة النساء: الآية ٧٥
(٦) سورة البقرة: الآية ٢٥٦
(٧) سورة البقرة: الآية ١٩١
(٨) سورة البقرة: الآية ٢٠٨
(٩) سورة الأنفال: الآية ٦١
(١٠) سورة النساء: الآية ٩٠
(١١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٤٧
(١٢) تفسير الألوسي: ٣/ ٢٩٤، وقال الشافعي رحمه الله: " إن الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم "
(١٣) شروح الهداية: ٥/ ١٩٦ ـ ٢١٠

<<  <  ج: ص:  >  >>