للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحرب في الإسلام:

إذا كانت الإسلام دعوة عالمية، وكان مع هذا ينهى عن الإكراه في الدين، فلماذا أباح الحرب، وحض على الجهاد، وأعد في سبيله الأجر الجزيل، والنعيم المقيم؟

إن الحرب في الإسلام ليست أصلًا من أصوله، ولا يمكن أن تكون وسيلة لحمل الناس على الإيمان به؛ لأن الإقناع الصادق القائم على الوجدان والبرهان عماد اليقين الراسخ، ولا يتسنى لأية قوة في الأرض أن تفرض على إنسان عقيدة يأباها قلبه وينفر منها عقله، فما هي الغاية إذن من الحرب في الإسلام؟

إن من رحمة الله بعباده أنه لا يسألهم عما كتبه عليهم إلا بعد الإنذار إليهم: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (١) .

وقد بلغ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسالة ربه إلى قومه، كما بلغها إلى الأمراء والملوك في عصره عن طريق رسله وكتبه، وفي هذا تأكيد لمبدأ عالمية الإسلام، وأنه رسالة الله الخاتمة إلى الناس كافة. وتوفي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد أن ترك قومه على المحجة البيضاء، وكان على هؤلاء العرب الذين اصطفى الله منهم خاتم رسله أن يحملوا هذا الدين إلى غيرهم من الأمم، فالشرائع لا تلزم إلا بعد السماع (٢) ، ومن ثم فإن غير العرب إذا لم تصل إليهم دعوة الإسلام فلا حجة عليهم، وإنما تقع الحجة على الذين بلغتهم هذه الدعوة، ثم قصروا في تبليغها إلى سواهم.

فمن أجل تبليغ الإسلام إلى الناس في كل زمان ومكان، وحماية الدعوة إليه من القاسطين والمفسدين فرض الجهاد، وكان ماضيًا إلى يوم القيامة، إنه جهاد من أجل حماية التبليغ، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فقد برهنت أحداث التاريخ على أن الطغاة لا يتركون الناس أحرارًا فيما يدينون به، أو يسمعون له، وفي حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثل الحي على ذلك فقد دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام فآذوه واضطهدوه، وعذبوا من صدقه واتبعه، ثم أخرجوه وأصحابه من مكة.

إن مشركي مكة أرادوا الحجر على القلوب والعقول، وأبوا أن يدعوا للناس الحرية في التفكير والاختيار، فهم بهذا يحمون مبدأ الإكراه في الدين، فلو ترك هؤلاء الكفار وشأنهم لطغى الباطل على الحق، ولطمس النورَ الظلامُ، فكان الإذن بالقتال وإعداد القوة لدفع هذا الظلم الذي تعرض له المؤمنون لأنهم قالوا ربنا الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (٣) .

فغاية الحرب الأولى في الإسلام تنحصر في تحرير الناس من الطغاة، وحماية الضعفاء من الأقوياء، حتى لا يكون في الأرض سلطان غير سلطان الحق تبارك وتعالى، فلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

ولأن غاية الحرب في الإسلام هي تحقيق الحرية الدينية، وإنقاذ المستضعفين من براثن المتجبرين فإن هذا الدين قد لطف من حدتها وجعل لها قانونًا عادلًا ونظامًا محكمًا وآدابًا لم تعرفها البشرية في تاريخها الطويل، وأكبر ما يسجل له من أمرها أنه لم يشرعها لنيل المغانم وفرض المغارم، ولكنه جعلها وسيلة عند الضرورة لتبليغ كلمة الله ونشرها بين الأمم، كما جعلها وسيلة لرد الاعتداء والدفاع عن عقيدة الأمة وحريتها وعزة المؤمنين واستقلال وسلامة أوطانهم.


(١) سورة الإسراء: الآية ١٥
(٢) انظر شرح السير الكبير، للسرخسي: ٤/ ٢٩١، طبعة الهند
(٣) سورة الحج: الآيتان ٣٩، ٤٠

<<  <  ج: ص:  >  >>