ومن الشبه التي يثيرها البعض ادعاؤهم بعدم قدرة الشريعة على الاستجابة لمتطلبات العصر الحديث، فكثيرًا ما يقولون: كيف يصلح قانون قديم مر عليه أربعة عشر قرنًا ليلبي حاجات مجتمع عصري ودولة متحضرة؟
وبعد إمعان النظر في هذه الشبهة يتبين أن مثيريها لم يفهموا شيئًا من الشريعة الإسلامية، لاعتقادهم أن الشريعة مجرد أحكام محدودة مقيدة بنصوص قديمة محدودة وهذا الاعتقاد هو الذي دفعهم إلى القول بأن النصوص الشرعية لا تستوعب الأحداث المتنوعة والمتطلبات العصرية.
نقول لهم: إنهم وقعوا في هذا الخطأ عندما سووا بين القوانين الوضعية التي وضعها البشر وبين الشريعة الإسلامية التي تكفل بوضعها خالق البشر , فنحن نعلم أن القوانين الوضعية القائمة الآن تختلف اختلافًا جذريًّا عن القوانين القديمة التي كانت تطبق حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلادي، لأن القوانين الوضعية الحديثة تقوم على نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية لم يكن لها وجود في القوانين القديمة، ونحن وإن كنا نتفق معهم في الاعتقاد بعدم صلاحية القوانين القديمة للعصر الحاضر، ولكن لا نتفق معهم حين يقيسون الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية، وهذا القياس الذي دفعهم إلى القول بأنه ما دامت القوانين التي كانت سائدة حتى أواخر القرن الثامن عشر لا تصلح لعصرنا الحاضر، فكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت سائدة في العصور الوسطى , ولا يخفى بطلان هذا القياس لأن القياس إنما يكون بين متماثلين، ولا تماثل بين الشريعة والقوانين الوضعية، فبينهما اختلافات أساسية، وتتميز الشريعة بمميزات جوهرية والقاعدة المعروفة لدى جميع العلماء أنه إذا انعدمت المساواة والمماثلة بين شيئين فلا قياس، أو كان القياس باطلًا، وبذلك يبطل ادعاؤهم بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر؛ لأنه بني على قياس باطل وما قام على الباطل فهو باطل (١) .
ولو تتبعنا نصوص الشريعة لوجدنا فيها من القواعد والمبادئ ما يتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان وتطورت الجماعة وتعددت الحاجات وتنوعت؛ لأنها جاءت عامة إلى آخر حدود العموم، مرنة إلى آخر حدود المرونة، فلا تضيق بما يمكن أن يستجد من حالات، فكل ما عرض للناس من الحاجات والمرافق في مختلف أيامهم يمكن لعلماء الإسلام أن يجدوا له حلًّا شرعيًّا , إما بالنص بوجه من وجوه دلالائه المتعددة، وإما بالقياس على النص بنوع من أنواع القياس الكثيرة، أو بغيرهما كالإجماع والاستحسان والمصالح فكل ذلك مما يثبت به الحكم الشرعي إذا توفرت الشروط.